اثر التفجيرات النووية الهندية الأخيرة: توابع قد تمتد الى الخليج: بقلم- د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فجأة ودون مقدمات كبيرة فجرت الهند ثلاث قنابل نووية في تجارب تحت الارض, سرعان ما اتبعتها بتفجيرين تاليين, وقامت الدنيا منذ التفجيرات الثلاثة الاولى ولم تقعد بعد, فالهند دولة كبيرة بعدد سكانها ولكنها دولة من دول العالم الثالث ايضا لها ما لهذه الدول وعليها ما عليها وان امتازت بثقلها العددي ــ بعد الصين ــ وبعض انجازاتها التقنية, لكنها تشارك غالبية هذه الدول ضعفها التقليدي في ضبط النفس, وسلاح من هذا النوع, من اسلحة الدمار الشامل, يبعث الرهبة والرعب في اوصال العديد من الدول. ويثير لدينا ــ في دول الخليج ــ الوانا من الانفعال والتحسب يكاد لا يحس بها عرب آخرون. لأسباب شتى اجتماعية وجغرافية. ان سياسة اللاعنف التي وضعها المهاتما غاندي وحقق بها استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني, وبنيت الهند الحديثة على اساسها في صرح من التآخي الداخلي والخارجي صمد طويلا وان اخذ في التآكل, هذه السياسة السلمية تبدو بعيدة تماما عن تصريحات وزير العلوم الهندي الحالي موراني مانوهار (وهو قومي هندوسي) بأن بلاده سوف تزود صواريخها العابرة للقارات برؤوس نووية! او تصريح رئيس الوزراء باحتمال الرد على اي عدوان بأسلحة الدمار الشامل! وهي تصريحات واكبت التفجيرات النووية الهندية الاخيرة. ولعل الفرق بين احلام الاستقلال والحرية والحفاظ على الجنس البشري, والاستعداد لارسال صواريخ عابرة للقارات برؤوس نووية الى (الاعداء الخارجيين المحتملين) هو الفرق بين الاستقلال عن الآخر والحفاظ على الحياة, وتدمير وحرق الآخرين, وهما فلسفتان متناقضتان تماما, وقد تفسر دوافع الانتقال من الاولى الى الثانية بضيق الساحة الداخلية الهندية بزحام الفرقاء وتراكم المشكلات الداخلية, والصراعات العرقية والفئوية, وهي ضغوط داخلية متفجرة عادة ما تبحث عن تنفيس لها في الخارج, فاللجوء الى استعراض القوة في الكثير من البلدان في العالم الثالث هو ضرب من ضروب الهروب من مواجهة مشكلات الداخل, ومحاولة استنهاض التعصب الوطني والعرقي ضد الآخر لاضفاء شعور مصطنع بالتوحد يغطي على المشكلات الداخلية الصعبة, وهو سلوك سياسي سرعان ما ينقلب الى ضده, ولا تبدو الهند استثناء في ذلك. لمن توجه الهند هذا التهديد المدمر الجديد؟ ذلك سؤال يستحق ان نبحث عن اجابة له, هل هو موجه للصين وباكستان, وهما العدوان الظاهران للهند, وكل الخلافات بينهما لم تتعد المناوشات الحدودية, حتى في المشكلة الاعقد اي مشكلة كشمير بين الهند وباكستان. فلا الصين راغبة باحتلال الهند مثلا, ولا باكستان قادرة على ذلك, وما بين الدولتين والهند امور يمكن ان تحل بالتفاوض, بل هي اقتربت من ذلك اكثر من مرة, كما ان مثلها تكاد تكون عالقة بين معظم دول العالم الثالث, كما ان الدولتين ــ الصين وباكستان ــ ليستا من الدول الاستعمارية, ولم يحدث ان توسعتا بالقوة او احتلتا اراضي دول اخرى حتى يوجه نحوهما كل هذا التوجس. واحتمال تغيير سياسة هذين البلدين تجاه الهند هو احتمال تفرضه وتحث عليه التفجيرات الاخيرة, ولا تضعفه بل تزيده, كما اعلنت باكستان اخيرا من انها سوف تقوم بتفجير نووي يقابل التفجيرات الهندية, ولكن هذه المرة في صحراء بلوشستان القريبة من الخليج. الهند تمر بضائقة اقتصادية منذ زمن, بعد الانتعاش الذي شهده اقتصادها في آواخر حكم آل نهرو, لذلك فان التفجيرات الاخيرة هي استنزاف لموارد محدودة بحساب تعداد الشعب الهندي ومتطالباته الاقتصادية, وهو تصرف يناقض المفاهيم الاقتصادية, والمفاهيم السياسية ايضا بعد انتهاء الحرب الباردة, ففي الوقت الذي تسعى فيه دول العالم للانفتاح وجلب رساميل خارجية تقوم الهند بتعريض نفسها بهذا العمل لمقاطعة دولية, وخسارة بلايين الدولارات من المساعدات الخارجية. الذي لا شك فيه ان العالم وصل الى قناعة بأن السلم شرط من شروط التنمية, لكن بينما تسعى الدول لاحلال الحوار والتفاهم بدلا من الصدام لحل المشكلات العالقة, تلجأ الهند لتطوير سلاح نووي يعلي لغة القوة, ويزدري المجتمع الدولي الذي ادان التجارب النووية, وهي مخاطرة عامة ضد منطق التفكير في النظام الدولي الجديد, ثم ان الهند تقوم بذلك في منطقة مدججة بالسلاح التقليدي ومتوترة اصلا, وهي منطقة شبه القارة الهندية وما حولها, ومن ثم فحسابات المخاطرة سلبية على المستوى العملي والدبلوماسي اقليميا ودوليا. انه منطق اطلاق المارد من عقاله دون دقة في الحسابات, فباكستان التي تتوق ايضا, ولأسباب داخلية الى تطوير قدراتها النووية اصبح لديها الحجة بعد ان كانت لديها الحاجة لأن تقوم بذلك دون ان تجد المبرر, وردود الافعال الشعبية محيرة, ففي بلاد عديدة يقوم اهلها بالاحتجاج على هذا النوع من السلاح بينما نرى ان الهند وبعدها باكستان تكادان تفيضان بالتأييد الشعبي له, الى درجة ان هناك كتابات في باكستان دعت الى التخلي عن بعض الخبز لتوفير ما يلزم من مال لتطوير هذا السلاح الفتاك, اذكاء لنيران سباق التسلح بين الهند وباكستان وهما فقيرتان اصلا بمعيار الموارد وفرص التنمية الممكنة مقارنة مع ضخامة التكدس السكاني, ثم ان التفجيرات هي تكريس لقيم العداء على اسس دينية وعرقية وهذا لعب بالنار في منطقة ملتهبة بالتباينات الدينية والعرقية. من الصعب وضع اليد بدقة على الاسباب الكامنة وراء التفجير الاخير في الهند, الا ان الحقيقة غير القابلة للنقاش هي ان ذلك يستهلك قدرا مهما من ميزانيتها المتعبة, حيث ان البحوث العلمية وتوفير العلماء, والمواد الخام, كل ذلك يستهلك مالا وجهدا كثيرين, ولكن الاجتهاد الاقرب الى القبول يأخذنا الى عدة احتمالات, منها ان دوافع استعراض القوة هذا هو تعبير عن نفوذ وبأس سلطة المتشددين القوميين الذين تتملكهم الرغبة في التفوق على جارتهم الكبيرة الصين, وكشف متأخر عن تأثرهم بالهزيمة في الحرب المحدودة معها سنة ,1962 وقد يكون في ذلك من جهة اخرى ارضاء للعسكر, ام تراه تعبيرا عن تشددة النزعات القومية المتعصبة, وترشيدا لوصول احزاب اليمين الى السلطة لكن عبر تحالف هش وهي تريد ان تكسب من خطوة كهذه اصوات السذج والبسطاء بابهارهم بالقوة الغامضة. من ضمن الاجتهادات ايضا ان هذه التفجيرات هي مغازلة لحلم هندي قديم مفاده ان تجد الهند نفسها في نادي الاقوياء, وسط مجتمع دولي كان ينظر اليها دائما على انها حديقة حيوان بشرية تضم اجناسا ولغات وعقائد وعادات متفرقة ومختلفة, وهي بذلك غير قادرة على دخول العصر الحديث. وهنا يرد السؤال الواقعي الاخطر من الحلم: هل ما حدث هو استعداد تحت هلوسة النزعة التعصبية لخوض حرب ماحقة ضد عدوتهم التاريخية باكستان, حتى تصبح الهند القوة الوحيدة في شبه القارة الهندية, كما ظهر من التلميحات اللاحقة لتجارب الانفجار, ام تراه خليطا من مشاعر النقص والتهور السياسي والانسياق وراء صيحات التهديد والوعيد؟ قد يكون واحدا واكثر من كل ما سقناه من الاجتهادات صحيحا, ولكن الحقيقة الباقية بعد التجارب الاخيرة هي ان المنطقة في شرق آسيا ومحيطها بما فيها دول الخليج لم تعد استراتيجيا كحالها كما كانت قبل اسابيع قليلة فقط. الضجة التي اثيرت, حتى الآن, تجاه تجارب الهند النووية سبقتها ضجة عالمية عندما قامت فرنسا في العام الماضي بعدد من التجارب النووية, وقتها احتج البعض واعلنت فرنسا ان تلك هي آخر تجاربها, وفرنسا ليس لها عدو ظاهر وخطر في محيطها, فالاتحاد السوفييتي قد اختفى والتقارب الاوروبي الغربي والشرقي يسير على قدم وساق, ولكنه الفخر الوطني او الاعتزاز به, بجانب طموحها استعراض قدراتها التقنية لجيرانها الاوروبيين واحياء احد الاحلام الديجولية القديمة. ان كانت فرنسا قد استطاعت ذلك بسبب (الرفاه) التقني, فهل تقدر الهند على المواصلة في هذا الطريق المكلف في ظل اوضاعها الاقتصادية المعروفة الم يكن من الممكن ان تختار النخبة الهندية, على الاخص من التطبيقات التقنية ما ينفع الناس خاصة في العالم الثالث من غذاء ووقود هي وغيرها في امس الحاجة اليه, لسد طلب هذه الافواه المتكاثرة بالملايين ثم هل الاحتياطات التقنية لاحتواء اثار هذه التفجيرات هي من المتانة والصلابة مما يمنع اي تسربات ضارة بالانسان والحيوان. لا نريد ان نناقش ما تم من منظور ان ذلك بعيد عنا, فما ذلك ببعيد على مستوى الجغرافيا والحراك البشري, فمن المعروف ان شبه القارة الهندية تصدر الى الخليج عمالة تصل الى الملايين, واذا حدثت حرب في القارة الهندية فلن نكون نحن في الخليج بعيدين عنها. نحن اقرب من ساحة التفجيرات النووية الهندية مما يتصور البعض, فجغرافيا اية حرب تستخدم فيها الاسلحة ذات التدمير الشامل ستصيبنا برذاذها, او اشعاعها عاجلا ام آجلا, فهذه المواد تسافر في البر والبحر والجو, وتصيب القاصي كما الداني, وفي حالة نشوب نزاع من هذا النوع ما هو موقف العمالة الوافدة من رعايا تلك البلدان ان احتدم وطيس الخلاف العرقي, وهل نقدر على محاضرة تأجج العداء بين جاليتين كبيرتين من المقيمين ام ان ذلك سيتبعه محاولة بسط النفوذ واملاء السياسات؟ من المعروف ايضا ان الهند لها صداقات قديمة مع بعض دول العالم العربي, وربما ترتبط بصداقات جديدة مع طموحين من هنا او هناك تبعا لمصالحها, فهل يمكن ان ينتقل قبس من هذا التقدم التقني الخطر الى العالم الثالث في شكله المحظور دوليا الى بعض هذه البلدان, ام ان صداقتها مع اسرائيل سوف تحول دون ذلك او تمنعه؟ تلك بعض الاسئلة التي يفرضها حادث التجارب النووية الاخيرة, والكثير منها مستعص على الاجابة الشافية, لكن المؤكد ان تفجيرات اخرى خيرة ومدافعة عن الحياة كانت اولى بالاهتمام, تفجيرات للعلم والتقنية تسعف متطلبات الافواه الجائعة وتخفف آلام الاجساد الضامرة. لكن يبدو اننا محاصرون بالجنون وهو جنون ليس كجنون الافراد يتحدد تدميره في نطاق اهله, بل يمتد الى بعيد... بعيد, بالمعنى البيئي والسياسي والانساني. ومن المعروف ان اي تفجير نووي تحت الارض يحدث زلازل محدودة لكن توابعها ليست كذلك, وهي ليست فقط اهتزازات تابعة, بل توابع جيوبوليتيكية تعبر ــ كالاشعاعات ــ الحدود والاستراتيجيات. وليس الخليج ببعيد عن شبه القارة الهندية ومنطقة الخطر. فبيننا وبين هذه المنطقة بحر اسمه ــ وياللمفارقة ــ البحر العربي!

Email