السر في العلاقات الامريكية ـ الاسرائيلية: بقلم - نصير الاسعد

ت + ت - الحجم الطبيعي

تطرح التطورات الحاصلة على صعيد ما يسمى (العملية السلمية) في الشرق الاوسط وخصوصا على المسار الفلسطيني, اسئلة عديدة على عقلنا السياسي , لابد من ان تكون لنا حيالها اجوبة محددة... ومقنعة وغني عن القول ان تحليل هذه التطورات جميعا لابد ان يعود فيتصل اتصالا وثيقا بعدد من الاحكام الفكرية ــ السياسية التي تفرض نفسها بمناسبة الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين وقيام دولة اسرائيل لنتخذ من الوقفة ازاء التطورات الراهنة محطة في وعي متجدد للمشروع الصهيوني. لماذا يرفض بنيامين نتانياهو ما اسمي (المبادرة) الامريكية ويرفض الذهاب الى واشنطن بعد ان دعته الادارة اليها... وكيف يستطيع ان يرفض اصلا؟ هل هناك فعلا ازمة بالمعنى العميق للكلمة في العلاقات الامريكية ــ الاسرائىلية؟ هل يمكن الحديث بعد فشل اجتماعات لندن الاسبوع الماضي والغاء قمة واشنطن الاسرائيلية ـ الفلسطينية عن نهاية للعملية السلمية وهل تعترف الولايات المتحدة بذلك؟ وماذا بعد, وكيف مواجهة هذه التطورات؟ وغيرها من الاسئلة المتزاحمة التي تلح في تطلب التحليل... والاستنتاج. (اشكال) بين امريكا واسرائيل... ولا أزمة لماذا يرفض نتانياهو وكيف يرفض ما تطلبه امريكا, وما معنى (التجرؤ) الاسرائيلي على الولايات المتحدة؟ ببساطة ثمة عوامل عديدة تجعل نتانياهو قادرا على ذلك كله, في طليعتها عاملان. العامل الاول يتعلق بمنطق العلاقات الامريكية ــ الاسرائيلية نفسها ومضمونها. والعامل الثاني يتصل بالعلاقات الامريكية ــ العربية او بالاصح طريقة التعاطي العربية مع امريكا نبدأ بداهة بالعامل الاول. نسجل في هذا المجال حقيقة ان الولايات المتحدة لم تمارس اي ضغط على نتانياهو من اي نوع كان, بما يجعله يفكر مليا قبل ان يرفض (مبادرة) امريكية وبما يجعله تاليا يخشى ان يدفع ثمن رفضه وتطرفه. ونثبت هذه الحقيقة بمعطيات من المرحلة القريبة الماضية. هددت الولايات المتحدة الامريكية اكثر من مرة خلال الاسابيع الاخيرة بالانسحاب من العملية السلمية ان لم تحقق تقدما فعليا. لكن الولايات المتحدة تجنبت باستمرار تحميل نتانياهو المسؤولية عن تأزم هذه العملية واحتضارها بشكل صريح... وغالبا ما كانت الاشارات ــ عندما تأتي ــ ضمنية في هذا الخصوص التهديد بالانسحاب من العملية السلمية لا يؤذي اسرائىل فضلا عن كونه لا يشكل ضغطا عليها.... لأن الانسحاب الامريكي من شأنه ان يشكل تحريرا كاملا لنتانياهو في سياسيته المعتمدة... وهي سياسة نسف (العملية السلمية) اساسا. واقترحت الولايات المتحدة (افكارا) في ما يتعلق بالمسار الفلسطيني وباتت هذه الافكار متداولة من غير ان تبادر الادارة الامريكية الى اعلانها رسميا. ومن الواضح ان تمنع الادارة الامريكية عن اعلان افكارها رسميا يهدف الى عدم الضغط على نتانياهو وحشره وربما تكون لدى امريكا من وراء عدم الاعلان عن الافكار حكمة معينة فهي قد تضطر لتعديل افكارها لمصلحة نتانياهو مع انها ليست في مصلحة الفلسطينيين... فلماذا تحشر نفسها بالاعلان بالرسمي؟ ومع ان ما تقترحه الولايات المتحدة (يختلف) مع ما تعلن اسرائىل قبولها به فهو لا يتناقض بشكل عميق مع الموقف الاسرائيلي لكن الاهم ان امريكا كي تغري نتانياهو عرضت الانتقال مباشرة بعد الاتفاق على نسبة اعادة الانتشار (13,1%) الى مفاوضات الوضع النهائي وهذا مطلب نتانياهو اصلا كي يكرس الانتقالي نهائيا بحيث يحجز على الكيان الفلسطيني وامكان تطوره فأين الضغط الامريكي اذا؟ ولابد في السياق ذاته من التذكير بأن الولايات المتحدة مارست تكيفا مذهلا مع الموقف الاسرائيلي, واهم واخطر ما في هذا التكيف ان امريكا لم تعد تنطلق من اتفاقي اوسلو والخليل اللذين وقعا برعايتها بل هي انتقلت منهما. الى حيث يريد نتانياهو وتعاطت مع الامن الاسرائيلي بصفته معطى ثابتا ان الولايات المتحدة اصبحت بفعل هذا التكيف تدير العملية السلمية مجرد ادارة ولا تقودها وابلغ دليل على ذلك انها تمتنع عن طرح تصور حقيقي للسلام يترجم المعادلة التي وضعتها في الاساس, وهي لذلك تمتنع عن المجاهرة بأن واحدا من اسس السلام هو قيام الدولة الفلسطينية... حتى بات تأييد قيام الدولة الفلسطينية من اختصاص سيدة البيت الابيض هيلاري كلينتون ولا يتجاوز كونه رأيا شخصيا لها. في الحديث عن العامل الاول الذي يستفيد منه نتانياهو لرفض ما تطلبه الولايات المتحدة والتجرؤ عليها, عرضنا من وقائع الاسابيع القليلة الماضية ما يقدم برهانا حاسما على ان امريكا لم تكن في صدد ممارسة اي ضغط من اي نوع كان على اسرائيل. لكن عدم ممارسة واشنطن اي ضغط لا يكفي لتفسير سر هذا التجرؤ الاسرائيلي عليها... والسر يكمن في طبيعة العلاقات الامريكية ــ الاسرائيلية. العلاقات الامريكية ــ الاسرائىلية من طبيعة استراتيجية بموجبها تكرر الولايات المتحدة على اختلاف الادارات المتعاقبة ــ التزامها بتفوق اسرائيل ــ ايا كان الحاكم فيها ــ على العرب اجمعين, وتلتزم بامن اسرائيل وتساير منطق اسرائيل (المنتصرة) وهذا ما يفسر عدم اعادة امريكا النظر بعد خمسين عاما من قيام اسرائىل وبعد كل التطورات الدراماتيكية التي طرأت واهمها نهاية الحرب الباردة بدور اسرائيل ووظائفها وذلك خلافا لما ساد الاقتناع به عربيا خلال فترة من الزمن. يعرف نتانياهو هذا (السر) جيدا سر العلاقات الامريكية الاسرائىلية الاستراتيجية ويعرف تمام المعرفة ان امريكا لن تجازف بايصال اي اشكال مع اسرائيل الى حدود الازمة في العلاقات لا بل انها (اي امريكا) سرعان ما تنتقل بعد اي اشكال الى التأقلم مع المعطى الاسرائيلي. ويعرف نتانياهو هذا... ومعه يعرف انه يملك امكانية الضغط على امريكا بواسطة التأثير في الكونجرس... ويدرك ان امريكا لو تعارضت مصالحها مع اسرائيل, لن تلجأ الى تغليب هذه المصالح على العلاقة الاستراتيجية بينهما. العرب والسقف الامريكي هذا كان العامل الاول اي ما اسميناه سر العلاقات الامريكية ــ الاسرائيلية, فما هو العامل الثاني الاساسي. يدرك نتانياهو ان لا خوف من قلب الطاولة والمغامرة بالغاء اجتماعات واشنطن التي دعت اليها الادارة الامريكية, طالما ان العرب يجعلون امريكا سقفا لهم. وان المعادلة الواضحة هي الآتية: تتأقلم امريكا مع اسرائيل ويتأقلم العرب مع امريكا وهذه معادلة مثبتة. الم ينتقل الفلسطينيون المطالبون بتطبيق الاتفاقات الموقعة معهم تنفيذ لـ (المرحلة الانتقالية) من المطالبة باعادة انتشار اسرائيل في 30% من الضفة الى الموافقة على النسبة المقترحة امريكيا اي 13,1% فقط؟ الم يوافقوا على هذه النسبة حتى من غير ان تطرح الولايات المتحدة مبادرتها رسميا فاحرقوا احدى اوراقهم التفاوضية فيما استراتيجية نتانياهو التفاوضية هي على ما هي عليه؟ لكن هذا المثال لا يكفي, بل يجب الذهاب الى عمق المشكلة فللعرب منطق يتلخص بالآتي: مساعدة امريكا في الضغط على اسرائيل (وهو ضغط لا يأتي) والمساعدة تكون في التنازل لامريكا ومسايرتها حتى تستطيع ان تضغط على اسرائيل! هذا المنطق العربي ينم عن فهم خاطىء للعلاقات الامريكية ــ الاسرائيلية وقد شرحناها آنفا, وينم عن فهم خاطىء لادارة العلاقات العربية بحيث تكون لامريكا (مصلحة) مع العرب... وينم عن فهم خاطىء لـ (موقفنا) في الاستراتيجية الامريكية. ان المنطلق العربي السائد يحول مع الاسف الولايات المتحدة ضحية ــ مثلنا ــ لاسرائيل... لان امريكا واقعة تحت ضغط اللوبي اليهودي.. وهذه هي الكلمة السحرية! على ان هذا المنطق العربي السائد يتناقض اول ما يتناقض مع التجربة السياسية, حيث يثبت بالملموس في هذه التجربة ان في مكنة العرب ان هم اتخذوا موقفا حاسما ــ وموحدا ــ ان يجبروا امريكا على ما لا تريده: الم يشكل الموقف العربي الرافض لتوجيه ضربة عسكرية الى العراق قبل اسابيع ردعا للضربة وحماية للعراق؟! نقول اذا ان نتانياهو يعرف السر في العلاقات الامريكية ــ الاسرائيلية والسر في العلاقات الامريكية ــ العربية, ومعهما السر الدولي في ظل تسمر الاطراف الدولية عند حدود الدور المكمل للدور الامريكي, ولذا يقدم نتانياهو على رفض ما تطلبه امريكا وذلك للقول ان (الاشكال) الحالي بين الادارة الامريكية وحكومة نتانياهو لن يرقى إلى درجة الازمة في العلاقات الامريكية ــ الاسرائيلية. كسر الحلقة المفرغة من المفترض بعد هذه التطورات الاخيرة, ونجاح نتانياهو في فرط قمة واشنطن, ان يشكل ذلك اعلانا بان لا حياة للعملية السلمية بعد الان, ان لم تتغير اسسها, لكن من يستطيع المجازفة بافتراض ان امريكا ستعترف بالفشل وانها لن تتكيف مع اسرائيل وتنتقل تاليا إلى (تراجع) أخر؟ ان هذه الحلقة المفرغة يجب ان تكسر في مكان ما. تلك هي الخلاصة السياسية الرئيسية, والمدخل إلى كسر هذه الحلقة المفرغة في رأينا هو ان يحصل تغير ما على صعيد العلاقات العربية ــ الامريكية. وفي هذا السبيل, اي من اجل تغير على صعيد العلاقات العربية ــ الامريكية أو صياغتها بشكل مختلف, لابد أولا وقبل اي شيء من استئناف للعلاقات العربية ــ العربية نفسها باتجاه استعادة التنسيق العربي ومد من التضامن العربي. لا مفر للفلسطينيين من ان يطلقوا دينامية جديدة, ليس كافيا ان يقول مسؤولون فلسطينيون ان المفاوضات لم تعد ممكنة من حكومة اليمين الاسرائيلي على اهمية هذا الموقف على الرغم من كونه لم يصدر عن السلطة الفلسطينية رسميا, مهم هذا الموقف اذا, لكن لابد من محاولة فرض معطيات سياسية جديدة, وما يشجع على المطالبة بذلك, ان تصريحات صدرت في الآونة الخيرة عن كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بمن فيهم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, تقول ان الدولة الفلسطينية سيتم اعلانها في موعد اقصاه مايو 1999, وهو الموعد المحدد اصلا في اوسلو لمفاوضات الحل النهائي, ان مثل هذا التفكير السياسي يفترض دينامية سياسية ــ نضالية متكاملة تحصن هذا الاعلان في وقته. ان القضية الفلسطينية شكلت ــ وتشكل ــ العنوان الاهم للعلاقات العربية ــ العربية وللتضامن العربي, ولذلك لابد من موقفين فلسطيني وعربي, موقف فلسطيني يبني على فكرة اعلان الدولة خلال فترة معينة ويستدعي موقفا عربيا, ويتوجه لاستئناف العلاقات الفلسطينية ــ العربية, اي موقف فلسطيني يتجاوز حال المواكبة الراهنة للعملية السلمية بشروطها المختلفة القائمة, وموقف عربي يتضامن مع الفلسطينيين ويشكل حماية لهم, ويتضامن مع سوريا ولبنان ويشكل حماية لهما, فان ينطلق بحثنا ـ في هذه المقالة ـ من الوقائع الصارخة على المسار الفلسطيني لا يجعلنا ننسى ان الصمود اللبناني ـ السوري بحاجة إلى حماية عربية ايضا. ان المطلوب اذا موقف عربي يعلن ان الشروط الحالية للعملية السلمية مرفوضة ويضع شروطا مقابلة, ويستحضر عوامل القوة العربية في السياسة والاقتصاد, اي ان المطروح في المطاف الاخير فرض ميزان جديد للعلاقات العربية بامريكا بما يؤدي إلى استعادة بعض التوازن في المنطقة, ذلك ما سيجبر امريكا على اخذنا في الحسبان كما يقتضي, فليس صحيحا ان امريكا ستضغط من تلقاء نفسها على اسرائىل, وليس صحيحا اننا بضغطنا على امريكا نجازف, بدفعها اكثر نحو اسرائىل, طالما اننا بمسايرتنا لها لا نؤثر بالمرة, العلاقات في النهاية هي (علاقات قوة) اذا جاز التعبير, وليس علينا ان نجلد انفسنا لاننا ذات يوم وذات مرحلة لم نكن مع امريكا (في حقبة القطبين الدوليين) فهل ترى تعاقب امريكا من كان مع خصمها الدولي أم تتجاهل العرب جميعا؟!

Email