بين الحرية والابتذال: بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ نحو عام, وبعد ان انفض المشاركون في مؤتمر عقد بدولة الكويت حول الحريات وضوابطها في المفهوم الاسلامي, كتبت عن المخالفات والجرائم التي ترتكب بدعوى الحرية وتحت شعارها, واشرت حينئذ الى نماذج وامثلة لتلك المخالفات سوف ترد اشباهها هنا بعد قليل, وقد كان ذلك تعقيبا على مقالة لكاتب عربي (متعجل) , شن فيها هجوما عنيفا على فكرة المؤتمر والقائمين عليه والمشاركين فيه, وقد نشر تلك المقالة في نفس اليوم الذي بدأ فيه ذلك المؤتمر, وقد تم ذلك, مع الاسف ــ قبل التعرف على محاور المؤتمر واهدافه, ودون ترقب توصياته ونتائجه, مما يوحي بتبني موقف سلبي تجاه اصحاب المؤتمر, ودع عنك الخطاب المشحون باستخدام الفاظ التهجم التي استخدمها صاحبنا فتلك صغيرة بالقياس الى الخطيئة الكبرى التي وقع فيها عندما نفى اي وجود لمصطلح الحرية في الفكر الاسلامي وعمم الحكم على التجربة الاسلامية في مجال الحكم والدولة, وقال: ان القضية لا تقوم على العاطفة والالفاظ المنمقة, ولكن على العلم والتوثيق الجاد, والقضية ايضا هامة, لانها السبيل الوحيد لتفسير سيادة الاستبداد السياسي في تاريخ دار الإسلام! لست هنا في صدد تكرار المزاعم التي اوردها صاحبنا, ومن ثم التصدي لها, ولكني حرصت على الاشارة الى طرف منها لضرورة التنبيه على شيوع ذلك الفكر (التحرري) وآثاره الخطيرة على الفرد والجماعة فكرا وسلوكا. ولاشك ان استمرار مسلسل ذلك الانتهاك لمنظومة القيم والاخلاق بدعوى الحرية, يستدعي وقفات جادة تتلاءم مع حجم المشكلة المترتبة عليه. ولكن تبدو ثمة ضرورة للتأكيد على بعض الامور الاساسية ذات الصلة بهذا الموضوع المثير للجدل من ذلك, ان التشكيك في مفهوم الحرية وموقعه في الثقافة العربية الاسلامية يأتي في اطار الاختلاف حول العديد من القضايا الاساسية مثل مسألة الانتماء والهوية, والعلاقة مع (الآخر) . ولاشك ان الاختلاف على تلك المسائل يعد من ابرز مظاهر التشتت الفكري, ومرحلة (اللامشروع) التي تمر بها الامة. ومع ذلك كله, فإنه يجب عدم الخلط بين تجارب تاريخية مشوهة, او ممارسات مخالفة وبين المبادىء والاحكام التي قررتها النصوص الثابتة القطعية لتراثنا الفكري, وذلك باعتبارها (اي الحرية) حقا من الحقوق الاساسية للانسان, بل ونعمة انعمها الله تعالى على عباده, وليس لاحد حق منح الحرية او سلبها وفقا لهذا المفهوم, من ثم فانه ليس لاحد ان يزايد على مشروعية الحرية وثبوتها في الاسلام, الذي كان له ــ بطبيعة الحال ــ تصوره الخاص لهذه المسألة, وذلك من خلال رؤيته لموقع الانسان في هذه الحياة وعلاقته بأخيه الانسان, وبما حوله في هذا الكون وخالقه, ومن ثم وضع الضوابط والقيود لممارسة ذلك الحق (الحرية) دون المساس بذلك التصور وتلك الرؤية, وبما يحقق اشاعة الفضيلة وسيادة القيم, واذا كان الامر كذلك, فسوف ندرك الموقف الطبيعي من افرازات (التفلت) المشهود في الممارسة والقول والتعبير, ولاشك ان التسكع في الشوارع والاسواق لدى فئة من الشباب يدخل في ذلك الانتهاك, ذلك ان هذه الفئة (نواة البلطجة) تهدد امن المجتمع وتشيع فيه الاضطراب والفساد, خاصة في ظل ذلك الخواء الفكري المستفحل لدى تلك الفئة, ولعل افرازات ذلك الخواء بدأت تظهر بشكل يدعو للقلق, ربما كان اخطر مظاهره انتشار المخدرات واشاعة اجواء الرذيلة والاعتداء على المحرمات. نماذج صارخة للابتذال بجانب ما تقدم, والذي يعد مثالا بسيطا لسلوك خاطىء بدعوى الحرية المقرونة بالفراغ, فإن هناك نماذج الانتهاء الصارخ لمنظومة القيم الدالة على الابتذال وهي النماذج الصادرة عن بعض (المبدعين) من مثقفي هذا الزمان, وهم فئة لا ترجو لله وقارا, ولاترعى حرمة لاي مقدس. بل وترى ان الايغال في الانتهاك يعد مؤشرا على التفوق والابداع, واليك هذا النموذج لشاعر حداثي الذي اورده استاذنا الدكتور محمود الطناحي: اتمضمض بالشمس واحلب ثدي النملة, اني اغطس في اغسطس, وقول ذلك المغني الهابط قزقز لبك على القهوة وخشي في عبي لايستهوي. علق استاذنا الطناحي على ذلك المثال بقوله: انها فجاجة وفساد يأخذ بعضه برقاب بعض! وهو الذي يصدق كذلك على (مبدع) آخر في وصف مدينة نيسابور: (كل الغزاة بصقوا في وجهها المجدور, وضاجعوها وهي في المخاض من ألف ألف! وهي في اسمالها تضاجع الملوك تفتح للطغاة ساقيها) ! ثم اي ابداع في ما ورد في رواية احدهم عندما يتحدث من مكتب في احدى الغرف, فيذكر ان كتب الدين ملقاة فوقه: (كجثث متعفنة) ! وفي موضع آخر يتحدث ذلك (المبدع) ان جده كان يغلق على نفسه باب حجرة طوال ايام شهر رمضان, وكانت الجن تطعمه وتسقيه, وانه كان يقضي حاجته قرب فراشة ويمسح نفسه باوراق القرآن.. الى غير ذلك من الامثلة الموغلة في الابتذال والاسفاف, والتي تعبر جميعها عن ان الابداع عند المتعلقين بشعار الحرية العابثين بها, لايكون الا بانتهاك الثوابت الدينية والوطنية, وتجاوز الخطوط الحمراء التي حددتها تلك الثوابت فهو في الشعر هذيان تعافه الاذواق السليمة, وفي الغناء اسفاف وانحطاط, وفي الكتابة شطط وزيغ وفي الفن تفسح وقلة حياء وجرح للذوق العام. تفرقة واجبة بين الحرية والابتذال مع الاقرار بحق الانسان في ممارسة الحرية في التعبير والرأي والكتابة, فإن هناك ثمة ضرورة لتبيان ضوابط وشروط كيفية ممارسة ذلك الحق, وهو مايدعونا للقول بضرورة التفرقة بين الحرية والابتذال المشهود, وبالطبع فإننا لسنا شذوذا في هذه الدعوة, فثمة اصوات بدأت ترتفع لتنادي بوقف هذا العبث الذي يمارس بدعوى الحرية والابداع. وقبل ان نورد بعض تلك الاصوات لابد من التأكيد على اولئك (المبدعين) انما يمثلون ثقافة سطحية استهلاكية لا يملكون رصدا له قيمته في بنك الثقافة, وبروز تلك الفئة على النحو الذي تروج له وسائل الاتصال الحديثة يعبر عن أزمة حقيقية للنمط السائد من المثقفين الذين يقدمون إلى الجمهور بحسبانهم النخبة المثقفة التي تمثل هذه الثقافة. والمثير ان امر انتقاد ذلك التفلت لم يعد قاصرا على من يسمون بالكتاب الرجعيين أو المحنطين, بل ان عددا من الكتاب المستقلين قد اسهموا في الحديث عن هذا العبث بالثقافة, ومن اولئك الكتاب الدكتور رشدي سعيد المثقف الوطني الذي نقل عنه فهمي هويدي ما ذكره في احدث كتبه من دعوته إلى عقد اجتماع جديد يعطي للناس املا في حياة ومستقبل افضل, معتبرا ان تبني مثل هذا العقد من شأنه ان يحقق الاستقرار للبلاد ويحميها من التيارات اللا عقلانية والهدامة. يضاف إلى ذلك ما كتبه منذ فترة احمد اسماعيل في جريدة الاهالي المصرية, بعنوان (ليسوا كتابا, وليسوا مبدعين) . وقد اورد في تلك المقالة امثلة صارخة على ذلك الابتذال باسم الحرية, وهي بالتأكيد تفوق في ابتذالها وسقوطها وانحلالها ــ لتعلقها بالجنس ـ تلك النماذج التي ذكرتها قبل قليل. لذا لم اجدها مناسبة للنشر مرة اخرى هنا, لكنني سأذكر تعليقه بعد ذلك على تلك الشواهد حيث انتقد الكاتب اتجاه اولئك العابثين واهدار كل شيء والعصف بكل شيء بدعوى الحرية وكسر (التابو) (المحرم أو المقدس) ثم تساءل الكاتب: هل كسر (التابو) هو فقط التطاول على العقائد وتضمين اسم الله في سباقات بذيئة؟ هل يجرؤ أحد من هؤلاء الكتاب الطلقاء على كتابة اسم مسؤول كبير في الدولة من باب التصدي وكسر التابو؟ ابدا إنهم جبناء وهاربون من الضمير الاجتماعي. اضاف: يقول هؤلاء الدعاة: ليس هناك مقدسات, ونقول: لا, بل هناك مقدسات يحرص عليها الناس, ويحتمون بها, ولابد من احترامها, والابداع الاصيل وحده هو الطريق للتغيير المنشود, واقتلاع القيم الفاسدة والموروثة, فليس بالتعري واطلاق الغرائز يتحرر الانسان, ولكن بالثقافة والابداع وروادع الغريزة وضوابط الاهداء, هذه وغيرها هي خانة التحرير المنشود, من اجل كرامة الانسان ورفعته. لا, هؤلاء ليسوا كتابا وليسوا مبدعين, انهم فئة ضالة تبحث عن دور, ولا تجيد ادوات هذا الدور. هذه الاصوات الداعية إلى صيانة القيم والمحافظة على الثوابت رصيد جديد يضاف إلى الاتجاه المحافظ, وهو بلاشك يمثل اهمية لها وزنها, خاصة وانها تعبر عن اتجاه ايجابي جديد يلتقي حوله الشرفاء من المنتمين إلى هذه الثقافة. بقي ان نشير إلى بروز اصوات في مجتمعات اخرى في هذه الدعوة لوقف العبث بالحرية المفترى عليها, ولذلك الحديث صلة. المشرف العام/ جامعة زايد*

Email