دفاعا عن الحرية: بقلم- د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يكون التزامنا الاول, كتابا وقارئين, هو الدفاع عن الحرية باعتبارها شرط الوجود الانساني ولازمته, وتلك مسلمة تحتاج لا إلى ترجمتها إلى واقع فحسب, بل تفترض قبل ذلك فحص حدودها وابعادها لكي تكون الترجمة قادرة على اختراق الانظمة الاجتماعية على اختلافها وتباين مستوياتها, ومهما كانت عليه هذه الانظمة من صلادة وجمود. ولعل اهم ما يكشف عنه الفحص اهمية انتقاء التناقض بين القول والممارسة فلا يمكن منطقيا ان تفتح الفم متغنيا بالحرية ومطالبا بها, وفي الوقت ذاته تضطهد الاخر, وتسلب ارادته, وتسرق قوته, بل تعتدي على كيانه, وتسفك دمه, وانه لمن المؤسف القول بأن هذا هو ما يشاهد وما يسمع عنه في اكثر من مكان. كما لا يمكن منطقيا, ان يغض النظر من هو رافل ببلهنية العيش عن رؤية الملايين من البشر خاضعة للقهر والاضطهاد, ينوء كاهلها باعباء الظلم, بل ترضى به مادام ذلك الرضا يوفر لها لقمة العيش, وانه لمن المؤسف القول ايضا بان هذا الوضع هو المشاهد أو المسموع عنه في اكثر من مكان. ايبدو انتفاء التناقض مستحيلا ام ان الحرية نسبية, ينادي بها المنادون, وكل مناد يحمل في ذهنه صور عنها تختلف في الوانها ومعاييرها عما في ذهن الاخر, ولن تتحقق ترجمة المفهوم إلى واقع الا اذا توفرت وتحققت له التسمية الحقيقية, ان الوجود الانساني, كما يرى بعض الفلاسفة, لا يمكن ان يكون صامتا, ولا يتحقق له النمو من خلال الكلمات المزيفة, ولن ينجز تغيير العالم الا من خلال الكلمات الصادقة والتسمية الصادقة تعبير صادق عن ادراك واع لابعاد المفهوم وسيرورته الواقعية. ومن اجل ان نقترب بهذه المناقشة إلى حيز ملموس لنأخذ من حرية الصحافة كمسمى مثالا, يحلل بعض المنظرين حرية الصحافة في ضوء ما هو قائم من توجهات سياسية واقتصادية, فهم يرون ان دعاة حرية السوق يرون بان هذه الحرية تعني ان ممارسي الفعل الاعلامي احرار من كل قيد خارجي, وان الاعلام الحر لا يخضع لاشراف سلطة ولا تحتكره سلطة اما الماركسية في صورتها المتشددة التي لا تأتيها المرونة من اية جانب فترى ان الصحافة الحرة تعني نشر اراء كل الناس وليس آراء من لهم وفرة الثروة. وان واجب هذه الصحافة مقاومة الاضطهاد, وان تكون هناك سياسة وطنية تضمن ان تأخذ الصحافة مسارها الصحيح, اما الدول النامية فتربط حرية الصحافة بحرية ضمير الصحافي, وحرية ضمير الصحافي لا تبتعد بأي شكل عن امته, وبذلك تكون حرية الصحافة اقل في اهميتها من تنمية الوطن, وتأسيسا على ذلك, لا مندوحة من وجود سياسة وطنية تقوم كضمانة شرعية لحرية الصحافة. واذا كان فهمي صائبا, فان كلا من دعاة تلك الاتجاهات ومتبنيها يغني على ليلاه, ويكيف حرية الصحافة وفقا لايدولوجيته, والامر اذ ينطبق على حرية الصحافة, فانه ينطبق كذلك على الحرية بمفهومها الشامل, ومن هنا تتوالى على الذهن الاسئلة: - لماذا الحرية؟ - ولأجل من؟ ــ من يمنح الحرية؟ ــ وما هي هذه الحرية.. أهي غياب كل عائق عما اريد؟ ما علاقة الحرية بالمسؤولية؟ ايمكن ان نقول ان هناك حرية مع الاعتراف بوجود قيود تحددها, قيود قد تكون أمنية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية ــ اخلاقية؟ أنعيد حكاية ذلك الذي احتل مكانه في سفينة فخرقها في الحيز الذي يحتله انطلاقا من أنه حر في مكانه يفعل فيه ما يشاء؟ أموضوع الحرية كمثل الموضوعات الاخرى من سلطة ومساواة وعدالة موطن اختلاف في الرؤى والتصورات والاجتهادات, وان هناك حريات ــ لا حرية واحدة, مثلما هناك اكثر من نوع للسلطة, واكثر من نوع للمساواة, واكثر من نوع للعدالة؟ أيرتبط كل نوع من تلك الانواع بما هو معتاد عليه من اخلاق, وما هو مألوف من نظام للقيم! لعل أكبر ما يجابه القول بالحرية, في الاعلام وفي غيره من الفعل الاجتماعي, هو ان افتقاد الحرية يعني ذمة المواطن من المسؤولية الاجتماعية, ولعدم تحمل المسؤولية الاجتماعية انعكاسات خطيرة في انحسار احساس المواطن بدوره في انه يؤدي, بشكل ما, خدمة للوطن والمواطنين, وله دوره في اشاعة القلق في نفسية المواطن وارتباكه تجاه ما يصادفه من مهمات على نطاق أسرته الصغيرة, زوجته وأطفاله, والكبيرة اخوته في المواطنه. وله دوره في اغفال المواطن او تغافله لما يتفاعل على تراب وطنه من احداث وما قد يؤثر على موقف مواطنيه من احداث يحفل بها العالم من حولهم. وبعد ذلك فإن اخطر هذه الانعكاسات هو اتاحة المجال فسيحا لقوى التسلط والقهر لكي تكثف من حدة قيودها ومتانة اغلالها. هل تبدو لك الصورة معتمة متشائمة بعد ان يكون لديك تصور بصعوبة توفر الحرية مفهوما وتطبيقا وقبل ذلك تسمية. وربما تذهب الى القول بأن الحرية تكاد تشابه المناخ نتحدث عنه ولسنا بقادرين على فعل شيء ازاءه. اما ما اذهب اليه فهو القول بأن الحرية ممارسة عملية مستمرة وليست غاية جاهزة متكاملة ونهائية وصفا وتجسيدا. اقول انها تستحق التسمية بالحرية لانها تتشكل وتتأتى من خلال العمل, والعمل المستمر, وعلى هدى من مبادىء اساسية تنير المسالك بل وتتحكم بها. واهم ما اراه في هذه المبادىء هو ان الصراع مستمر الى غير ما منتهى من اجل الحرية, واستمرارية الصراع تعني ضمنا استمرارية المواجهة لكل ما هو غير انساني, وفضح الدعاوى المزيفة باسم الحرية ليس عن طريق القول فحسب بل والفعل كذلك. ومن هذه المبادىء ضرورة انهاء حالات الجوع والعري والتشرد فأية حرية للجائع والعاري والمتشرد؟ بل وأية حرية لمن يرى اخوته في المواطنة والانسانية يفتقدون لقمة تسكت الم الجوع, وثوبا يحمي من لسعة البرد, ولهبة القيظ, ومسكنا يقي من غوائل الطبيعة, ويكفل دفء الاسرة وحنانها. ومن هذه المبادىء ان يكون للمواطن دوره في صناعة القرار عن ارادة حرة واعية, اذ لا حرية بدون مشاركة حرة في التوجهات المصيرية. ومن هذه المبادىء الا تتحول اجهزة الاعلام الى وسيلة قهر فكري تحجب الرؤية الناقدة وتشيع أمية النفي, ان وجود وسائل الاعلام غير مبرر اذا افتقدت التجاوب مع الشأن العام, واذا لم تمارس خلالها حرية الرأي والتعبير وتبادل المعلومات واعتبار تلك الممارسة حقا متكاملا مع حقوق الانسان الاخرى. ــ ومن هذه المبادىء عدم انفصال اختيار الحرية مفهوما وتطبيقا عن الاختيار الاخلاقي باعتبار الاخير اختياراً حرا, ان الاختيار تحت فوهة البندقية, وضربة السوط, وسطوة الارهاب, واغراء المال لن يكون الا اختيارا يفتقد الاخلاقية. ــ واخيرا, فالحرية تتنافى مع الميز العنصري بكل ما يحمل الميز من متضمنات وما يتبع من اساليب, ان راية الوطن تظلل الجميع سواسية مهما اختلفت اعراقهم والوانهم, والعبيد لن يخلقوا وطنا, ولا في مقدورهم الدفاع عن وطن. ان من اخطر ما يواجه مسيرة الانسانية هو الظن بأن الحرية ضرب من الخيال والخرافة, او انها المستحيل ذاته, قد يكون الامر كذلك اذا ما اعتبرت الحرية غاية ينبغي ان تكون طوع اليد, ولكنها لن تكون كذلك اذا ما اعتبرت عملية مستمرة تتنامى مع تنامي مقاومة القهر والتسلط والجبروت, ولها المبادىء الاساسية التي تركن اليها وتستقيم عليها, وستظل هى اداتنا الاولى في صراعنا المستمر ومواجهاتنا المتعددة والممتدة ضد اعداء الامة من مغتصبي الارض والتراث والحضارة. خبير اعلامي*

Email