بعد 50 عاما من المقاومة العربية: القمة المفتقدة.. في ذكرى النكبة: بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

يستحق نتانياهو الشكر منا عدة مرات. يستحق الشكر ـ اولا ـ لانه اظهر للجميع الوجه الحقيقي لهذا الكيان العنصري العدواني القبيح الذي يجثم على صدر الامة العربية ويغتصب ارضها ويستبيح مقدساتها. ويستحق الشكر ـ ثانيا ـ لانه اعاد الامور الى اوضاعها الطبيعية وكشف ان سلام الشجعان إياه ليس إلا وهما لا مجال لتحقيقه, وان السلام الوحيد الممكن في المنطقة هو سلام الاقوياء الذين يستردون أرضهم ويحررون ارادتهم ويتصدون لمن يعتدي عليهم. ويستحق الشكر ـ ثالثا ـ لانه اعاد الوعي لمن فقدوا وعيهم, فهرولوا الى تل أبيب يقدمون عربون المحبة ويفتحون جسرا الى واشنطن بعد ان افهمتهم امريكا ان الطريق اليها لابد ان يمر بتل ابيب, وان من يسعى للدعم او الشرعية عليه ان يراعي الاصول ويعبر الطريق الوحيد الآمن في هذه المنطقة المليئة بالاضطرابات والاحتمالات ايضا. ويستحق نتانياهو الشكر ـ رابعا ـ لانه قد يكون سياسيا كاذبا وعنصريا وضيعا, ولكنه لم ينكر من البداية أهدافه ولم يسترها ـ كما يفعل غيره من السياسيين الصهاينة بالحديث الكاذب عن السلام بينما الجرافات تهدم منازل العرب والمستوطنات تتوسع والقدس تضيع. لم يفعل نتانياهو ما فعله حزب العمل الذي أقامت اسرائيل تحت قيادته اكبر عدد من المستوطنات (الاصح المستعمرات) واستقبلت اكبر عدد من المهاجرين, وطردت اكبر عدد من الفلسطينيين.. بينما لم ينقطع حديثها عن السلام المنشود والتطبيع المطلوب وأملها في شرق اوسط جديد ترفرف عليه اعلام التقدم والرفاهية.. في ظل الاحتلال الاسرائيلي طبعا! نتانياهو لم يفعل ذلك, بل اعلن من البداية ان خريطة المنطقة تخضع لموازين القوة, وان اسرائيل هي الاقوى, وبالتالي فمن حقها ـ بل من واجبها ـ ان تنتهز الفرصة وتفعل ما تريد وتفرض الامر الواقع الذي يتفق مع مصالحها.. ومصالحها وحدها! وليس ذنب نتانياهو ان البعض لم يصدقوه في البداية, وان البعض لم يستطيعوا التراجع من منتصف الطريق, وان البعض لا يستطيع ان يعصي لامريكا رأيا, وان امريكا لا تستطيع ـ او لا تريد ـ ان تمنع اسرائيل من تحقيق احلامها, خاصة اذا ادركت ان مصالحها في كل الاحوال مضمونة, وعلاقتها لن تتأثر بضياع فلسطين او استمرار احتلال الجولان او تهويد القدس. من اجل ذلك كله, ومن اجل غيره من الانجازات (يستحق نتانياهو الشكر, فلولاه لكانت اسرائيل تحتفل الان بنصف قرن من اغتصابها فلسطين, ولكانت وفود من نصف الدول العربية (تهرول) لتشاركها الاحتفال!!) الان.. تعود الامور الى حقيقتها الثابتة, قضية ارض مغتصبة, وشعب مطرود من ارضه او مقهور على ارضه, وحقوق لا بد ان تعود لاصحابها, وحين تعود لن تكون هناك اسرائيل التي يفرضها علينا عالم لا يعترف الا بالقوة ولا يحترم الا الاقوياء. الان.. تحتفل اسرائيل بنصف قرن من نشأتها, والصورة واضحة حتى ولو اغمض العالم عينيه حتى لا يراها فيؤرقه ضميره اذا كان لاا يزال للعالم ضمير يدرك ابعاد الجريمة التي تم ارتكابها في حق العرب.. ويعرف ان الاحتفال الان هو احتفال باغتصاب وطن وتشريد شعب.. وليس احتفالا بواحة الديمقراطية ومناشدة التقدم, كما تزعم اسرائيل وانصارها الذين يعتبرون ذلك انجازا للغرب والحضارة الغربية. ونحن ايضا نحتفل. واحتفالنا لا ينبغي ان يكون مجرد بكاء على وطن ضاع, ولا ينبغي ايضا ان يكون رضوخا للامر الواقع الذي يراد فرضه علينا. احتفالنا ينبغي ان يكون قراءة واعية للماضي, ودراسة شاملة للواقع.. ليس بغرض الخضوع له, وانما من اجل تغييره, ثم ـ بعد ذلك ـ رؤية للمستقبل ليس من باب الامنيات, ولا بمنطق التفاؤل او التشاؤم, وانما من باب الحسابات الدقيقة وتسخير كل الامكانيات للحاق بالعصر وتجاوز التخلف. والصورة ليست قاتمة.. رغم دعاوى البعض من الذين يبررون الاستسلام بانه الخيار الوحيد المتاح.. والمستقبل ليس مظلما تماما كما يحذرنا الذين خانتهم الرؤية فخانوا كل شيء نبيل.. باسم الواقعية وشجاعة الاعتراف بالهزيمة! احتفالنا ينبغي ان يكون اعترافا بالضعف وليس اقرارا بالهزيمة. وانتصارا لحقوقنا وليس دعوة للاستسلام. وتمسكا بالمقاومة وليس قبولا بالهوان. نعم.. كنا ضعافا ولم نزل. ولكننا نعرف الان ـ اكثر من اي وقت مضى أسباب ضعفنا ومصادر قوتنا. نعرف الان ـ واكثر من أي وقت مضى ـ جرائم الذين احتلوا ارضنا واستنزفوا ثرواتنا على مدى عقود طويلة من الاستعمار البغيض, ونعرف من الذي باع الحقوق ومن الذي رفض المهانة, ومن الذي حاول ان يبني, ومن الذي زرع المصانع والمدارس محاولا اللحاق بالعصر, ومن الذي عرقل هذه المحاولات. نعرف الان على سبيل المثال ـ لماذا كانت المقاومة الشرسة لتأميم مصر لقناة السويس. لقد كان المطلوب ـ ولا يزال ـ الا يسيطر العرب على ثرواتهم, والا يسيطروا على ارادتهم. ونعرف الان ـ على سبيل المثال ـ لماذا قاتلت امريكا حتى لا تبنى مصر السد العالي. لم يكن السد سلاحا يهدد اسرائيل, ولكن كان بناء مصر القوية هو الخطر الذي يهدد المصالح الاجنبية وينهي السيطرة على مصائر العرب. وكان التصنيع هو (البعبع) الذي حاولت امريكا بكل الطرق خنقه.. ولعل الذاكرة القوية تذكر ان ما يحدث الان مع العراق حدث مثله مع مصر قبل ما يقرب من اربعين سنة, حين ارادوا تجويعها واركاعها, فمنعت امريكا عنها القمح والدواء, لتقول بالفم المليان ان مصر والعرب ينبغي ان يظلوا على ضعفهم, وان اي قوة ـ اقتصادية او علمية او سياسية ـ تضاف لهم, هي خصم من النفوذ الامريكي, وتهديد للمصالح الامريكية. ونعرف الان ـ اكثر من اي وقت مضى ـ ان ما تحمله العرب خلال الخمسين عاما الماضية لم تتحمله امة من قبل.. اننا في حرب مستمرة لم تهدأ يوما لا تستهدف القوة العسكرية العربية, وانما تستهدف كل مصادر القوة العربية, ولا تقبل من العرب الا الاستسلام الكامل. ورغم ضراوة الحرب.. بل وقذارتها, فاننا لم نستسلم. وهذه هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الموقف الان.. ان خمسين عاما على اغتصاب فلسطين لم تجعلنا ننساها, وخمسون عاما من الحرب التي وقفت فيها القوى الكبرى ضد طموحاتنا القومية لم تجعلنا نستسلم. ان اسرائيل تحتفل الان بخمسين سنة من اغتصاب فلسطين, ونحن نحتفل بخمسين عاما من المقاومة الشريفة.. في اصعب الظروف وضد اعتى القوى. ان واجب الجميع على الساحة العربية, ان يساهموا بكل جهودهم في انتشال الامة العربية من هوة اليأس التي يراد لنا ان نسقط فيها. ان خمسين عاما من الاغتصاب كان امامها خمسون عاما من المقاومة الباسلة, وستظل امامها اعوام عديدة من النضال حتى ينتصر الحق وتعود الارض ويستتب السلام الحقيقي. ان خمسين عاما من المقاومة العربية اثبتت للعالم ـ ولانفسنا قبل العالم ـ الكثير من الحقائق التي ستحدد مستقبل الصراع في المنطقة. لقد اثبتنا اولا ان فلسطين ليست الاندلس, وان ضياعها ليس قدرا محتوما, وان استرجاعها ليس المستحيل, وانما المستحيل هو ان نرضى بان تضيع. فالاندلس في النهاية كانت جزءا من عالم لا ينتمي الينا, اما فلسطين فهي قضية أمن قومي لكل دولة عربية, بل هي قضية الامن في كل بيت عربي لا يريد ان يتعرض لما تعرض له العرب في دير ياسين او في قانا. واثبتنا ـ لانفسنا ولغيرنا ـ اننا قادرون على الانتصار, حتى في اسوأ الظروف وفي ظل مساندة القوى الكبرى لاسرائيل ورهانها على هزيمة العرب.. وهذا هو الدرس الذي تعلمه الجميع من حرب 73, والتي حاولت امريكا واسرائيل ـ ومازالتا تحاولان ـ اجهاض نتائجها وسرقة ما اثبتته من ضعف العدو مهما كان الدعم الذي يحصل عليه. وعرفنا ـ بالتجربة التي ما زلنا نذوق مرارتها ـ ان من يلقي السلاح قبل الاوان لن ينال شيئا, وان من يتسول السلام سوف يظل يبحث عن المحسنين بلا جدوى, وان القوة وحدها هي التي تفرض السلام وتحميه. وعرفنا رغم مرارة الهزيمة ورغم عبء النكبة, اننا لسنا امة من الغنم كما يريد لنا العدو ان نعتقد. بل نحن امة تملك من الصلابة ما امكنها به ان تصمد خمسين سنة للنكبة واثارها, وللنكسة وويلاتها, ولحروب متواصلة من امبراطوريات هزمناها في 1956, ومن امبراطوريات سنهزمها مهما طال الزمن. نعم.. نعرف الان اننا نملك كل الامكانيات لبناء القوة واسترداد الحق واقتحام المستقبل. ونعرف ايضا المعوقات الداخلية والخارجية, ونؤمن انه لا بديل عن طريق الوحدة لكي يكون للعرب مكان تحت الشمس, واوطان لا يغتصبها الغرباء, وشعوب لا تتحول الى لاجئين! لا نقول ذلك من باب التمنى ولا من احاديث الاوهام, ولكننا نقوله ونحن ندرك ان التاريخ لم يعرف ـ الا قليلا ـ أمما قاست ما قاسته امتنا العربية, وتعرضت للحروب المتواصلة والاستنزاف المخطط والعدوان المستمر مثلما تعرضت امتنا. والتاريخ ايضا لم يعرف ـ الا قليلا ـ مما صمدت مثلما صمدت لكل هذه المحن, وما زالت ـ رغم ضعفها في اللحظة الراهنة ـ ترفض الهزيمة وتستعد للثأر. نكتب ذلك, وقد يكون عرفات في امريكا غدا يفاوض ـ في ذكرى النكبة ـ على استرجاع 2% من الضفة وليس من فلسطين, ومع ذلك فليس هذا نهاية المطاف, وليس هذا هو الفصل الاخير من قضية نضالنا لاسترجاع الارض وتحرير الارادة, وعرفات نفسه يدرك ذلك الان بعد ان اصبح رهين المحبسين.. نتانياهو وامريكا. لا نقف عند هذه اللحظة الطارئة في عمر الكفاح العربي ـ ولكننا نقف امام الاقتراح الاخير للشيخ زايد بعقد القمة العربية, لنقول ان هذه لحظتها مهما كانت التحفظات, ومهما بقي في النفوس, ومهما كانت الضغوط الامريكية من اجل الا نجتمع. نعم.. هذه لحظة للقرار الصعب من كل الاطراف. ولكن علينا جميعا ان نتذكر ان القمة العربية المنعقدة في عام 1970 بعد 48 ساعة من الدعوة التي وجهتها مصر لحقن الدم العربي, وايقاف المجزرة الاردنية للفلسطينيين.. فلماذا لا تلتئم القمة العربية في ذكرى النكبة لتقول للعالم ان العرب ليسوا سلالة منقرضة, ولتقول لامريكا انها لا بد ستدفع ثمن انحيازها لاسرائيل, ولتقول لاسرائيل انها ـ مهما طال الزمن ـ زائلة, ولتقول لملايين العرب ان العروبة لم تمت, وان القدس لن تضيع, وان فلسطين ليست الاندلس, وان الارض المغتصبة ستعود. لماذا لا تلتئم القمة العربية في ذكرى النكبة لتقول للعالم كله انه لا سلام ولا أمن ولا استقرار الا اذا عادت الحقوق, وتحررت الارض, وادرك كل عربي انه لن يتحول الى لاجىء, وادرك كل لاجىء انه سيعود الى وطنه. لماذا لا تلتئم القمة العربية في ذكرى النكبة.. هذا هو السؤال الذي تبحث الامة كلها عن اجابته الضائعة!!

Email