العابثون بالثوابت: بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

من ابرز تجليات الخواء الفكري وأزمة (اللامشروع) العدوان على الثوابت المستقرة في المجتمع والمستمدة بشكل اساسي من التراث الفكري للامة, من عقيدة دينية وموروثات وتقاليد واعراف مجتمعية. في ظل ذلك الخواء وتلك الازمة الحضارية تعددت الشواهد على ذلك الانتهاك. سأكتفي هنا بثلاثة امثلة اصبح سماع امثالها, او مشاهدتها او قراءتها من الامور المألوفة لدى طائفة من العابثين من مثقفي هذا الزمان. يأتي الاول كمقدمة او تمهيد للعبث بأهم ثوابت اي امة وهي المقدمة التي تلغي شيئا اسمه (ثوابت) حيث تعده كما وصفها صاحب تلك المقولة ثوابت وهمية! فهذا الذي يتعلق به الناس من تراث فكري, وعقيدة دينية, او رموز مقدسة معبرة عنها, أو خصائص تميز اي ثقافة من لغة او عادات او اعراف ما هي الا اوهام لا صلة لها بالحقيقة. هذا الزعم خطير جدا. وأحسب انه بحاجة الى مناقشة جادة وهادئة ذلك ان تقرير مثل هذا القول سوف يؤدي بكل تأكيد الى المساس بالقيم المستقرة في المجتمع او الغائها. حيث يتم في السياق ذاته تجاوز الخطوط الحمراء التي تتعلق بثقافتنا العربية الاسلامية, وقيمها المستمدة من العقيدة الدينية وعاداتها وتقاليدها المستمدة من المجتمع وهذه الاخيرة لا ترقى في (ثبوتها) الى الاولى, ومن ثم كانت نسبية, تتفاوت في درجة (ثبوتها) من مرحلة الى اخرى. والمؤسف ان تبرير ذلك الانتهاك يتم بعد القول بأنه لا توجد خطوط حمراء كي يتم تجاوزها فهذه الخطوط وهمية كما يتصوره اولئك العابثون الذين اذا سلم لهم هذا القول, فان قضايا مصيرية وهامة مثل السيادة والاستقلال وعدم التبعية فضلا عن الفضائل والاخلاق تعد من قبيل الامور النسبية التي تختلف حولها وجهات النظر. ومن ثم لا يمكن اعتبارها (ثوابت) يجب المحافظة عليها ولست ادري كيف يمكن ان يقبل بهذا القول اي عاقل صدق لديه الانتماء الى دين او وطن. اما المثال الثاني لتلك الانتهاكات, فهو لنائبة برلمانية عربية اشتهرت بسلاطة اللسان, وممارسة هواية الاشتباك مع كل (آخر) واذا تعذر افتعال هذا الاشتباك فلا مانع لديها من الاشتباك مع نفسها. وقد جاء انتهاك هذه السيدة في سياق مقابلة تلفزيونية بثتها مباشرة احدى القنوات الفضائية العربية المعروفة باختلاق الازمات وبالاثارة المجردة غير الهادفة. اي بالاثارة من اجل الاثارة لا غير. خطيئة تلك السيدة تمثلت في انتهاكها لثوابت الشريعة الاسلامية وانتقادها الشديد لتعدد الزوجات الذي يسمح به الاسلام وفق ضوابط وشروط معينة اهمها القدرة والعدل. وفي اطار منظومة اجتماعية شاملة تتفق مع الرؤية الاسلامية الخاصة للمجتمع الانساني. اما المثال الاخير فهو لكاتب عربي, خاض غمار الفتوى في امور الدين ومسائله, دون امتلاك شروطها وادواتها وذلك بعد تاريخ طويل حافل بالفشل السياسي وجاء انتهاكه كذلك موجها للدين الاسلامي والاستخفاف ببعض مظاهرة. حيث كتب في شأن العلاقة بين التراث والدين, وجاء ببعض الامثلة على حدوث خلط بينهما. بعد نسبة العادات التي قد تظهر في بعض المجتمعات الى الدين واعتبارها جزءا منه. من تلك الامثلة انه (اي ذلك الكاتب) سأل شابا عن سبب اطلاق لحيته. فاجاب الشاب: تلك سنة رسول الله, كان ملتحيا فالتحينا. فأجابه الكاتب: ولكن اعداء رسول الله كانوا كذلك ملتحين, لقد كانت سنة القوم في تلك الايام! ولست اريد هنا الخوض في مسألة اطلاق اللحية او عدم اطلاقها, والتي اعتبرها من المسائل الشخصية, هي مستحبة, ولكنها لا تمثل أولوية في هذه المرحلة. كما انها لا تستحق ذلك الهدر في الجهد والوقت للنقاش حول تحريم حلقها ووجوب اطلاقها, الا اني وقفت فقط عند الخلط الذي وقع فيه صاحبنا بعد اعتباره تلك المسألة من العادات التي كانت شائعة في جاهلية ذلك الزمان, وقطع صلتها بسنن الدين الاسلامي. كما وقع الكاتب في خطيئة اخرى عندما تعرض لحجاب المرأة كمثال لذلك الخلط بين التراث والدين حسب رأيه والذي تساءل بعد ايراده له: هل هي ــ اي مسألة حجاب المرأة ــ تراث موروث ام مسألة دينية؟ عندما قرأت تلك العبارة, قلت ان هذا الكاتب العبقري لا يبعد كثيرا عن غلاة العلمانيين الذين نظروا بعين الازدراء والاستخفاف الى كل ما تعلق بشريعة الاسلام ومظاهره باعتبار كل ذلك من رموز التخلف ومظاهر البؤس, فهو لا يختلف في نظرته لحجاب المرأة عن كمال اتاتورك مؤسسة الجمهورية العلمانية في تركيا. والذي كان يرى ان حجاب المرأة وتغطية شعر رأسها كان بسبب شح الموارد مثل المياه والشامبو والصابون! بحيث كانت المرأة تسعى الى اخفاء ما علق بشعرها. ولمازالت ـ في هذا الزمان ـ تلك الاسباب وتوافرت الامكانات فليس هناك حاجة او مبرر للاستمرار في تغطية الرأس والالتزام بالحجاب! وقد كان ذلك كافيا لدى اتاتورك لمنع الحجاب بحكم القانون والدعوة الى السفور او حتى فرضه, على المرأة الذي ليس فيه انتهاك لقيمة دينية, بل فيه عدوان على الحرية الشخصية للانسان. وبعد استعراض سريع لتلك الامثلة الثلاثة يلاحظ ان انتهاك مسائل الدين اصبح من الامور المألوفة المتاحة لكل شخص. سواء أكان هذا الانسان مؤهلا للبحث فيها ممتلكا لأدوات الفهم والارتباط ام لا. وذلك بعد ان اصبحت حقوق الدين مهدورة. وتراجع دوره واهميته في مشروع هذه الامة. ومن ثم اصبح العدوان عليه امرا اعتياديا وطبيعيا ولا يستدعي اي رد فعل له اثر ذو قيمة ولا يغرنك ارتفاع بعض الاصوات المستنكرة هنا وهناك. فهي في حقيقة الامر ليست سوى صيحات لا تتجاوز التنديد والاحتجاج سرعان ما يخبو ضوؤها ويزول اثرها بمرور ايام قلائل والشواهد على ذلك عديدة وحاضرة, والامر نفسه يصدق على سائر الوان الانتهاكات, سواء أكان متعلقا باغتصاب ارض, او باعتداء على الانفس, او بانتهاك رمز له احترامه وقدسيته. ولا تجد الذاكرة العربية والاسلامية صعوبة في استرجاع احداث مثل حريق المسجد الاقصى والمذابح التي استهدفت مسلمي البوسنة والهرسك والشيشان او هدم مسجد بابري على يد متعصبي الهندوس. او الملصقات المسيئة الى نبي الاسلام. والتي قام بنشرها اليهود... الى آخر تلك القائمة الحافلة بأمثال تلك الانتهاكات والتي تعكس ازمة حضارية كبرى ليس لها من دون الله كاشفة.

Email