اليوم العالمي لحرية الصحافة: مراجعة الذات العربية بقلم: د. محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتفل العالم في الثالث من مايو من كل سنة باليوم العالمي لحرية الصحافة, وعادة ما يكون هذا اليوم فرصة لتقييم الذات والوقوف على أهم الانجازات وأهم المشاكل والعراقيل والتصفيات الجسدية وغيرها التي يتعرض لها الصحافيين في مختلف دول العالم مراجعة الذات هنا تستوقفنا عن أهم الانجازات وهل تغيرت دار لقمان ام بقيت على حالها أم أنها زادت سوءا وتدهوراً . في البداية يجب ان نحيي الزملاء في مهنة المتاعب ونزف لهم أسمى عبارات التقدير والعرفان لما يبذلوه من جهد ومتاعب لأداء مهمتهم على أحسن وجه وتجدر الاشارة هنا أن دراسات عديدة أكدت في نتائجها أن الصحافي يعمل في المعدل أكثر من 50 ساعة في الأسبوع وبعض الاحيان يصل عدد الساعات الى أكثر من 60 ساعة. الصحافي اذا هو مرآة المجتمع وهو شاهد عيان يومي لما يجري وما يحدث فيه في العلن او في الخفاء أو في الكواليس. الصحافي أو القائم بالاتصال مطالب في المجتمع بالتأريخ اليومي لمجريات الأحداث والأمور, مطالب بالوقوف عند كل كبيرة وصغيرة, مطالب بكشف الحقائق وابراز الايجابيات والسلبيات وخاصة التركيز على السلبيات, لأن السلبيات هي التي تضر بالمجتمع وخاصة بالمحرومين والمهمشين, الصحافي هو حلقة الوصل بين الحاكم, والمحكوم بين المشرع والمنفذ, بين السلطة والشعب, وهذا ما يجعل من دوره دورا استراتيجياً وحساساً. دراسات وتقارير منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم و(مراسلون بلا حدود) والاتحاد العالمي للصحف والمنظمة العالمية للصحفيين وغيرها من المنظمات الحكومية وغير الحكومية تبعث على التشاؤم والحسرة والحزن العميقين للمشاكل والمتاعب والخطورة التي تكتنف مهنة الصحافة ففي كل سنة هناك عشرات الصحفيين يموتون قتلاً ويغتالون, ومئات منهم يسجنون, ومئات يحاكمون ومئات يتعرضون لمضايقات ولإهانات لا لشيء الا لأنهم حاولوا القيام بواجبهم وبرسالتهم على أحسن وجه, حاولوا ان يكشفوا الحقيقة ويحاربوا الرشوة والمحسوبية والوساطة والعمولة وتبييض الاموال وتهريب المخدرات.. الى غير ذلك من الآفات والأمراض التي يدفع ضريبتها وفاتورتها الغالبية العظمى من لا حول لهم ولا قوة, المادة (19) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تؤكد على حرية الرأي والتعبير لكن في معظم دول العالم (مافيا) المال والسياسة لا تؤمن بهذا المبدأ وبهذا الحق, وأصبح من يملك المال والنفوذ والسلطة له حق التعبير والرأي أما باقي شرائح المجتمع فتكتفي باستهلاك ما يقدم اليها بدون مساءلة ولا استفسار. السؤال الذي يطرح نفسه هنا وخاصة بالنسبة لنا في الوطن العربي وأمام كل هذه المهام والمسؤوليات هل يتمتع الصحافي في دولنا العربية بالحصانة الكافية؟ هل يتمتع بحماية قانونية وبتشريعات تحميه من جبروت السلطة والمال؟ هل ظروف عمل الصحافي في دولنا مهيأة ومواتية للقيام بالعمل الصحافي على أحسن وجه, ماذا بالنسبة للرضى عن العمل والعلاقة بمصادر الاخبار؟ ماذا عن الراتب والحوافز والامتيازات؟ وفي نهاية الامر نحن نطلب من الصحافي الكثير ونقدم له القليل. في الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة يجب علينا كعرب ان نتوقف لحظة من الوقت ونحاول ان نجيب على هذه التساؤلات وغيرها, أما الجهات المؤهلة للإجابة على هذه الأسئلة فهي وزارات الاعلام والثقافة والداخلية والهيئات التشريعية والقضائية, مع الأسف الشديد وفي معظم الدول العربية ما زال ينظر للصحافة ــ والمقصود بالصحافة هنا المهنة بصفة عامة سواء بالنسبة للاذاعة او التلفزيون او الصحافة المطبوعة من جرائد ومجلات ودوريات ــ على أنها وسيلة في يد السلطة تتصرف فيها كما تشاء ووفق خطها السياسي والمسار الذي تحدده لها, وهكذا بدلاً من ان تكون الصحافة في الوطن العربي نعمة للشعوب وللرأي العام جاءت نقمة وعلة تزيف الواقع وتلمع كل ما تقبل عليه. فلماذا يا ترى في وطننا العربي لا نجعل من المؤسسة الاعلامية مؤسسة مسؤولة وحرة ولا نثق فيها, ولا نعطيها الامكانيات اللازمة حتى تلعب دورها الاستراتيجي والفعال في المجتمع, لماذا ننظر دائماً للمؤسسة الاعلامية على أنها خطر وبإمكانها ان تسبب مشاكل عديدة ومتنوعة للسلطة؟ لماذا لا نثق في الصحافي ونتركه عند ضميره يقوم بمهمة الاعلام والاخبار والتحقيق والكشف عن المساوىء والتناقضات. ينعم الصحافي في اي مجتمع بمكانة مرموقة واستراتيجية يحسد عليها بحيث يستطيع ان يصل الرأي العام بكل سهولة وبسرعة فائقة كما يستطيع ان يصل الى صاحب القرار ومصدر الخبر واية ادارة أو مؤسسة في المجتمع بدون عناء, هذه الامتيازات بطبيعة الحال تقابلها مسؤولية كبيرة يجب ان يتحلى بها القائم بالاتصال ويضع في ذهنه أنه مسؤول عن كشف الحقائق ومحاربة الفساد والرشوة وفي الدول النامية تبرز أهمية المؤسسة الاعلامية ومسؤوليتها الاجتماعية أكثر من أي مجتمع آخر وهذا نظراً للدور الاستراتيجي والفعال الذي تلعبه وسائل الاتصال الجماهيري في مجتمعات بحاجة الى تعليم وتوعية صحية وبيئية وسياسية وغيرها من المهام الرئيسية لتحقيق التنمية الشاملة والخروج من التخلف والفقر والجهل وغير ذلك من المشاكل العديدة والمتنوعة في مثل هذه الدول. تعتبر حرية الصحافة والديمقراطية وجهان لعملة واحدة, فإننا لا نستطيع ان نتكلم عن نظام ديمقراطي بدون منظومة اعلامية قوية وفاعلة ومشاركة في الحياة السياسية وعملية اتخاذ القرار. وأهم العراقيل التي تقف حاجزاً أمام حرية الصحافة في معظم الدول العربية والدول النامية القوانين الجائرة والصارمة التي تحد من ابداع الصحافي ومن عطائه, اضف الى ذلك ان معظم قوانين المنشورات والمطبوعات وتشريعات الصحافة تفرض على القائم بالاتصال ممارسة النقد الذاتي او الرقابة الذاتية وهكذا تصبح الآلة الاعلامية عالة على المجتمع, فبدلاً من أن تكون عنصراً فعالاً تسهم في محاربة الآفات الاجتماعية وتشارك في تقديم الحلول للمشاكل المختلفة تصبح في يد القلة الحاكمة التي قد تكون في الكثير من الاحيان خاطئة في قراراتها وطرق تسييرها للكثير من الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحرية الصحافة ترتبط كذلك بالكثير من المعطيات والمستلزمات التي يجب أن تتوفر في المجتمع, ومن هذه المستلزمات فلسفة ونظرة السلطة والمجتمع لوسائل الاعلام, كذلك النضج السياسي والممارسة السياسية لدى الشعب, وكذلك وجود الجمعيات السياسية القوية وجماعات الضغط والجمعيات بمختلف أنواعها واشكالها. الى متى تبقى قوانين النشر والمطبوعات وقوانين الاعلام في وطننا العربي تتغير باستمرار, الى متى تبقى هذه القوانين والتشريعات قوانين عقوبات واجراءات تعسفية ضد الصحافي فهذه القوانين كان من المفروض ان تنظر في الجهات التي تحتكر الكلمة والصوت والصورة للاستغلال والتزييف والتلوين والتهميش وتعاقبها, هذه القوانين كان من المفروض ان تضع الخطوط الحمراء التي لا يجب ان تتجاوزها السلطة السياسية والمالية في التحكم والتلاعب في المؤسسات الاعلامية كما تشاء ووفق مصالحها وأهدافها. التعديل الاول في الدستور الامريكي على سبيل المثال يضع قيود أمام الحكومة الامريكية لعدم التدخل والتطفل على الصحافة وحتى رئيس الدولة نفسه لا يستطيع ان يقوم بضغوط على المؤسسة الاعلامية والقائم بالاتصال الرئيس كلينتون رئيس أقوى دولة في العالم بقي مكتوف الأيدي أمام التغطيات الصحفية والتحقيقات المختلفة التي تفننت فيها مختلف وسائل الاعلام الامريكية لكشف تصرفاته اللاأخلاقية والتي خرجت عن الآداب العامة. السلطة في الوطن العربي ومع الأسف الشديد ما زالت تنظر الى المنظومة الاعلامية والمؤسسة الاعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيداً عن طموحات الجماهير ومطالبهم السلطة في الوطن العربي ما زالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعال ونتيجة لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام اعلامي ايجابي وفعال. قد يسأل سائل ويقول هل فعلاً وظفت الدول العربية جهازها الاعلامي احسن توظيف وهل استفادت حقيقة من هذه الوسائل الاستراتيجية والهامة التي تنفق عليها سنويا مئات الملايين من الدولارات بل مليارات من الدولارات وبكل بساطة نقول ان نظرة الدول العربية لاعلامها نظرة خاطئة وسلبية تقوم على البعد البراغماتي النفعي بدون مراعاة امكانية استغلال الجهاز الاعلامي بطريقة أرشد وأحسن يستفيد منها المجتمع ككل, السلطة والشعب بشرائحه المختلفة, والنظرة الضيقة هذه للإعلام من قبل الأنظمة العربية ليست نتيجة الصدفة ولكنها نتيجة حتمية لانعدام مستلزمات وشروط الاعلام التنموي الذي يراقب وينتقد ويشارك في صناعة القرار ويشرك الجماهير الشعبية في العملية التنموية وفي البناء والتشييد. فإذا كان واقع اعلامنا العربي على هذا الشكل فهل يحق لنا ان نطالب بنظام اعلامي دولي عادل ومنصف ونحن لم نرتب امور بيوتنا؟ هل يحق لنا ان ننتقد العولمة الاعلامية والثقافية ونحن لم نتسلح بالشجاعة الكافية لاعطاء الحرية اللازمة لجهازنا الاعلامي ليقوم بدوره كما ينبغي؟ هل يحق لنا ان ننتقد الوكالات العالمية للأنباء على القيم الإخبارية التي تنقلها وعلى التغطية السلبية والمضللة التي تقوم بها في مختلف أرجاء العالم؟ هل يحق لنا أن ننتقد الغرب وخاصة الولايات المتحدة الامريكية لسيطرتها على الانتاج الاعلامي العالمي وعلى القيم الاخبارية العالمية؟ وكيف يا ترى سنواجه القرن الحادي والعشرين ونحن لم نعرف بعد كيف نوظف ونستغل وسائطنا وصناعاتنا الاعلامية والثقافية كما ينبغي. ومن أهم مستلزمات الاعلام القوي والفعال في أي مجتمع حرية التعبير وحرية الرأي وحرية الوصول الى المعلومات, هذه المستلزمات يجب ان نعمل على توفيرها وعلى اكتسابها كسلطة وكقائمين بالاتصال وكمثقفين وباحثين ووسطاء ثقافيين...الخ, وبدون هذه المستلزمات فإنه لا يحق لنا الكلام عن المجتمع المعلوماتي والثورة الاتصالية والعولمة الثقافية وغيرها من التحديات العديدة والمختلفة التي نعيشها اليوم وبصورة فائقة. فالنظام الاعلامي العربي الراهن يحتاج الى نظرة نقدية جادة مع نفسه كما يحتاج الى مراجعة مع الذات وهذا للوقوف على السلبيات والتعلم من الاخطاء والهفوات السابقة للانطلاق بخطى قوية وايجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الاعلام وسيلة للسيطرة والتحكم وإنما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والابداع والاختلاف في الرأي. نتمنى ان نحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة في السنة القادمة وقد طرأ تطور وتقدم كبيرين على المهنة وعلى الصحافي العربي.

Email