أوروبا تضع قاطرتها على سكة الوحدة ـ بقلم: رضي الموسوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك ان اتفاق احدى عشرة دولة اوروبية اعضاء في الاتحاد الاوروبي على اصدار عملة موحدة مطلع العام القادم , يعتبر من الاحداث المهمة على المستوى العالمي وخاصة في جانبه الاقتصادي والمالي, حيث ستشكل العملة الجديدة القادمة منافساً قوياً للدولار الامريكي الذي يتربع على عرش النقد الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن, صحيح ان الخبراء يجمعون على ان العملة الاوروبية الموحدة (اليورو) لن تحل محل العملة الامريكية (الدولار) الا ان معطيات كثيرة في الجوانب الاقتصادية والمالية سوف تشهد تغيير ملموس, لعل ابرزها تغيير بعض الدول لاحتياطياتها من الدولار الامريكي الى اليورو الاوروبي, وتحويل جزء من هذه الاحتياطيات كما اعلنت تايوان قبل ايام من عزمها على تحويل قرابة ستة عشر مليار دولار الى العملة الاوروبية الجديدة. هذا الحدث المهم, لا تقتصر اهميته على الدول الاحدى عشرة الاوروبية التي وقعت على اتفاقية التحول الى العملة الاوروبية الجديدة, انما تتجاوز اهميته كل اوروبا ويمتد تأثيره الى الشواطىء العربية, فضلاً عن الدور الذي سيلعبه في تعزيز دور اوروبا عالمياً على كافة الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والخطوة هذه, اقرب الى المغامرة الضرورية, فليس امام اوروبا من خيارات سوى الدخول في التحدي القائم على اساس خلق التكتلات الاقتصادية الاقليمية والقارية لمواجهة قرن جديد سريع الدوران والتطور التكنولوجي ويحتاج الى سرعة موازية لتأمين موقع مهم على الخريطة الدولية في عصر يطلق عليه العولمة التي يقال انها لن تنتظر اولئك الذين لا يزالون يحسبون حساباتهم بالوسائل البدائية ويظلون متفرجين على الآخرين في سباقهم مع الزمن. وقبل التوقيع على هذا المشروع خاضت كل من المانيا وفرنسا والنمسا وبلجيكا واسبانيا وايطاليا وفنلندا وايرلندا ولوكسمبورج وهولندا والبرتغال. خاضت معارك طاحنة لتصل الى متطلبات معاهدة ماستريخت المتعلقة بالدخول في نادي (اليورو) واهمها الا يزيد العجز في الموازنة عن ثلاثة بالمائة نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي, والا يزيد الدين العام قياساً الى الناتج المحلي الاجمالي عن 60 بالمئة, اذ لم تلبي هذا الشرط سوى ثلاث دول من الاعضاء الاحد عشر, اضافة الى ضرورة تقليص نسبة التضخم الى ما لا يزيد عن 2.7 بالمئة. فقد تعرضت الدول الرئيسية في الاتحاد الى صعوبات جمة في الوصول الى هذه النسب, فألمانيا مثلاً, وهي الدولة التي تجر قاطرة الاتحاد بقوة, تواجه الآن معضلة شديدة تتعلق بالبطالة بسبب تقليص الانفاق العام, حيث يزيد عدد العاطلين عن العمل على 12.1 بالمئة, وما يعادل اربعة ملايين شخص اضافة الى مليون شخص يعدون من ضمن البطالة المقنعة, ولهذا السبب, تشير استطلاعات الرأي الى ان المستشار الالماني هيلموت كول قد يخرج من الحكم نظراً لزيادة النقمة على سياسة حزبه الداخلية والتي ينظر اليها الرأي العام على انها ضارة بالاقتصاد الالماني ومجتمعه خاصة في الولايات الشرقية التي يعاني سكانها من نسب بطالة اكثر من غيرها, وهذه الاستطلاعات تعززت في ولاية ساكسن ــ انهالت الشرقية خلال الانتخابات الاخيرة التي فقد فيها الحزب الديمقراطي المسيحي وحليفه الحزب الليبرالي اصوات الناخبين الذين رشحوا, نكاية بحزب هيلموت كول, حزب اتحاد الشعب الالماني او ما يعرف هناك بالنازيين الجدد الذين يبشرون بعودة النازية المناهضة لكل ما هو اجنبي بما فيها الاستثمارات, وقد حصل هذا الحزب الجديد على قرابة 13 بالمئة من اصوات الناخبين الذين سبق وان صوتوا الى حزب هيلموت كول, بالرغم من ذلك فان هذا الاخير يحلم بان يكون بسمارك جديد, فالمستشار الالماني هو الذي هندس وحدة المانيا وضم القسم الشرقي الى الغربي بعد مغازلة طويلة للمعسكر الشرقي وخاصة في ظل وجود ميخائيل جورباتشوف على رأس الحزب الشيوعي السوفييتي واستطاع كول اقناع اصدقائه الامريكيين بخططه في تشجيع الدول الشرقية على الانفتاح الاقتصادي, وهذا ما حصل, حيث استطاع هذا المستشار توحيد المانيا واعادة الروح للعاصمة القديمة برلين, ويسعى الآن لدخول التاريخ الاوروبي من ابوابه الواسعة لكن الانتخابات القادمة قد تؤجل او تلغي هذا الحلم (البسماركي) بسبب الاحتمال الكبير في خسارة حزب المستشار الالماني للانتخابات القادمة في شهر سبتمبر القادم لصالح الحزب الاشتراكي الديمقراطي وزعيمه غيرهارد شرودر الذي سمي من حزبه مرشحاً لمنصب المستشار القادم لالمانيا ويبدو ان المستشار هيلموت كول يزداد قلقاً كلما اقترب موعد الانتخابات في بلاده, خوفاً من الفشل في الاستمرار مستشاراً موحداً لأوروبا, ومجيء منافسه للحكم والمعروف بانتقاده الحاد لـ (كول) في السرعة التي يمارسها تجاه وحدة النقد الاوروبي, اذ يعتبرها لا تأتي الا على حساب الشعب الالماني. ان وضع ألمانيا كقائدة لمسيرة الوحدة الاوروبية يستحق هذا الاسهاب الذي قد يفسر طبيعة الصعاب التي ستواجهها اوروبا مستقبلا. لكن طبيعة عمل الوحدة الاوروبية وآلياتها تقطع الطريق على التراجع عن اتفاقيات مدعومة باستفتاءات شعبية وقرارات برلمانية وطنية وعلى مستوى الاتحاد الأوربي ككل, ما يجعل امكانية التراجع مسألة تقترب من المستحيل, بالرغم من الجدل الدائر الآن في المانيا حول طبيعة (التخريجة) التي توصل اليها قادة الاتحاد لمنصب رئيس البنك المركزي الاوروبي. ويبدو ان هذا النوع من الجدل قد تعودت عليه اوروبا منذ اكثر من اربعين عاما من العمل المتواصل لانجاز اسس رئيسية في وحدة اوروبا, حيث يشكل هذا الجدل اساسا حقيقياً في خلق اجواء صحية للمواطن العادي علاقة مباشرة بها, فتبتعد المسألة عن القرارات الفوقية التي اثبتت التجربة انها غير قادرة على الاستمرار اذا اراد الرأي العام شيئا مغايرا لما يقرر من فوق. وما يجري الآن في اوروبا ليس سوى خطوات اولى نحو توسيع الاتحاد الاوروبي ليشمل فيما بعد بلدان القارة اجمعها, اذ تخطو اوروبا نحو توحيدها بالتدرج ومستندة الى مؤسسات المجتمع المدني التي هي ضرورة لأي مشروع ضخم كالوحدة النقدية. بيد ان بعض الجوانب السلبية لاشك انها ترافق هذه الخطوة العملاقة, فالنزعة الاوروبية قد تطغى في بعض المراحل, والانغلاق قد يؤدي الى خلق مشاكل اقتصادية وسياسة مع المنافسين وخاصة الولايات المتحدة واليابان حيث دعت الأولى على لسان الرئيس بيل كلينتون الى ضرورة انفتاح الاقتصاديات الاوروبية على العالم, فيما يري بعض اقطاب الصناعة في اوروبا غير ذلك. فأمبرتو أنبيلي رئيس شركة فيات, اكبر شركة صناعية أوروبية ينظر الى ان (السوق الواحدة يجب ان تعطي أولا ميزة للشركات الاوروبية. هذه رسالة يجب ان تصر عليها بدون تردد) ويشاطره الرأي فيلي دي كليرك مفوض العلاقات الخارجية للمجموعة الاقتصادية مطلع التسعينات والذي يؤكد بأنه (لا نجد سببا يدعونا الى ايصال فوائد ليبراليتنا الداخلية من جانب واحد الى دول اخرى) . أوروبا تمر الآن بارهاصات ودعوات بعضها متناقض مع التوجهات الجديدة فيما يسمى بالعولمة, لكن أليس القوة هي التي تحكم المسارات الدولية؟ وهذا ما ستسير عليه اوروبا مستقبلا, حيث ستحدد مسارها بقوة مدعومة باقتصاديات عملاقة الواحد منها يزيد ناتجه المحلي عن كل الدول العربية التي لا تزال مستمتعة بفرجة تطور الآخرين وبقائها هي في آخر القائمة بالرغم من قصة منطقة التجارة الحرة التي وقعت في العام 1981, وبعد ستة عشر عاما (1997) وضع لها برنامج, وفي العام الجاري بدأ تنفيذه بالتدريج البطيء الذي يستمر لمدة عشر سنوات حتى العام 2008. أليس هذه مفارقة: ان تتوحد أمم مختلفة خلال فترة زمنية قياسية, بينما امة العرب تندب حظها ولاتزال تناقش اهمية القمة العربية من عدمها, في حين تعقد اوروبا قمة لتعيين حاكم للبنك المركزي, وقمة اخرى في نفس العام لدراسة الخطوات القادمة التي تستلزمها شروط التطور الوحدوي بين الامم, غير عابئة بالجدل الذي يدور... بل تعتبره ظاهرة حضارية يجب الحفاظ عليها كشرط للتقدم وتنفيذ البرامج المحددة.

Email