خمسينهم وخمسيننا: بقلم- عمران سلمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان سيبدو مفهوما لو ان كل هذا الاحتفاء من جانب الغرب بذكرى مرور خمسين عاما على انشاء اسرائيل, انما يأتي والمنطقة تعيش سلاما عادلا, يضع الاسس المتينة لتعايش سلمي بين العرب والاسرائيليين . لكن على بعد كيلومترات قليلة فقط من حدود (معجزة العصر) كما يسميها رئيس الحكومة البريطانية توني بلير, توجد مأساة ماثلة عمرها ايضا خمسون عاما, لم يزدها الزمن وتوالي الاحداث الا تأججا واشتعالا. فكأن المحتفين باسرائيل على هذا النحو المفعم بالزهو, انما أرادوا اراحة انفسهم, حين راحوا يختصرون الصورة إلى احد وجهيها, وطرد الوجه الاخر للمناسبة ومواراته بطن النسيان. بيد انهم اذ فعلوا ذلك, لم يستطعوا ان يحجبوا المأساة الفلسطينية, وانما باركوا لاسرائيل طريقها الذي تسير فيه واعطوها شرعية التاريخ, بعد شرعية الوجود. وان يحتفل الاسرائيليون بقيام دولتهم, فهو امر طبيعي ولا غرابة فيه. ولكن ما الذي يدعوا رئيس الوزراء البريطاني بلير إلى التصفيق الحاد والغناء, فضلا عن الصلاة, تعبيرا عن امتنانه لنعمة قيام اسرائيل, على نحو ما عبر قولا وفعلا في احتفال السفارة الاسرائىلية في لندن. ان بريطانيا بالذات تتحمل مسؤولية تاريخية واخلاقية مباشرة عما آل اليه مصير فلسطين والفلسطينيين مثلما هو معروف ومؤرخ. ومن المفترض ان يمثل سياسيوها ورجال دولتها, الذاكرة الاكثر عمقا ووعيا بمأساة الشعب الفلسطيني وبالمجازر واعمال التشريد التي قامت بها العصابات الصهيونية منذ زمن الانتداب. وبالتالي يكونوا اقل حماسا واندفاعا في احتفائهم بهذه المناسبة, شأنهم في ذلك شأن جميع الاسوياء. فيما تصبح بريطانيا من هذه الزاوية على الاقل, البلد الذي يلعب دور الموازن من الناحية السياسية, والاكثر حضورا وفعالية من الناحية الانسانية. لكن لندن لا تفعل ذلك البتة, يغريها في هذا قوة ونفوذ الدولة الاسرائيلية من جهة, وضعف وبؤس العرب من الجهة الاخرى. بيد ان نكوص بريطانيا وتخليها عن هذا الدور, لا يعفي بقية الدول الغربية المعنية مباشرة بملف ازمة الشرق الاوسط, من تذكير الاسرائيليين, بأنهم انما يقيمون احتفالاتهم الصاخبة هذه والمشبعة برائحة النصر, على انقاض مأساة ونكبة شعب آخر. فيما السلام المؤمل بين العرب والاسرائيليين, لا يمكن الا ان يكون جزءا من واقع سليم ومعافى وخال من المرارات والجروح, وليس واقعا مريضا ومتخما بالتناقضات كما هو حاله الان. ان واقعا كهذا لا يمكنه ان يفرز سلاما حقيقيا ودائما, وانما يؤسس في داخله لعدم الدوام وامكانية العودة للخلف في كل مرة. كما لايمكن للعواصم الغربية ان تعتبر قيام اسرائيل (حدثا تاريخيا استثنائيا) وتبارك (التضحيات) الاسرائيلية (ومرادفاتها عند العرب المجازر والحروب والقتل) طوال الخمسين عاما الماضية, ثم تدعي مع ذلك انها تعمل من اجل اقامة السلام بين العرب والاسرائيليين. ان مجرد اعتبار ما قام به اليهود في فلسطين (تضحيات) و(اعمال بطولية) انما يضفي الشرعية الكاملة على هذه الاعمال, ويبرىء ساحة العصابات والمجرمين الصهاينة والملطخة ايديهم بدماء الابرياء والعزل من الفلسطينيين والعرب. وفي الوقت نفسه يدمغ نضال الشعب الفلسطيني من اجل العودة وتقرير المصير, ويوصمه (بالتعدي) و(الارهاب) . وفي ظل هذه (المقاييس) و(المعايير) العمياء الظالمة, لا يمكن الحديث عن اية علاقة متساوية أو متكافئة بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي, مما يلزم لتحقيق السلام والتعايش الامن. ان التاريخ كان جزءا حيا على الدوام من الصراع العربي الاسرائيلي, وكل حدث أو مناسبة أو مكان في فلسطين, انما يلخص ويكثف جانبا من هذا الصراع, يتصل بدوره مع الجوانب الاخرى في اطار حلقة متصلة. واذا كان المعاصرون عاجزين عن تعديل كفة الميزان واعادته إلى استواءه الاولي تماما, فلا اقل من تعديل الانحراف. لكن ما يحدث اليوم عشية الاحتفالات (بقيام اسرائيل) , انما هو تثبيت لذلك الخلل وادامته, تحت شتى المسميات. كاتب وصحافي بحريني*

Email