في طيات أسبوع الخليج السياسي في لندن: وماذا عن الشيخ الاسكتلندي؟ بقلم- الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الاسبوع الماضي كانت مدينة لندن محط اكثر من نشاط عربي خليجي , فقد استضافت المدينة وزراء الخارجية الخليجيين في اجتماعهم الدوري مع نظرائهم من وزراء الخارجية الاوروبيين كما استضافت في الوقت نفسه المؤتمر الثاني لامن الخليج من المنظور الوطني والذي دعا اليه واعد له مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية في ابوظبي, وقد حضر هذا المؤتمر الاخير عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين في الحكومة البريطانية كما حضرته ثلة من القياديين العرب من الخليج ومنهم بعض وزراء الخارجية ووزراء الدفاع ومسؤولون كبار في وزارات الدفاع الخليجية وعلى مدى يومين كثيفين بالعمل نوقشت قضايا امن الخليج من منظور بريطاني ومنظور خليجي فقد فرغت الحكومة العمالية الجديدة بعد اشهر من مراجعة استراتيجيتها الشاملة للنظر في قضايا الدفاع في الخليج وتم عرض الخطوط العريضة لهذه المراجعة على المؤتمرين, كما ناقش الخليجيون الامن الاقليمي من وجهة نظرهم اما عن حكاية الشيخ الاسكتلندي, قبل ان استطرد فيما انا ذاهب اليه, والتي جاءت في عنوان هذا المقال فقد كانت هي محور البداية لدى كل متحدث, فعندما افتتح جورج روبرتسون وزير الدفاع البريطاني المؤتمر بدأ بحكاية نكتة عادة ما يبدأ بها المتحدث الغربي حديثه حتى لو كان جادا كل الجدية فقد قال الوزير ان احد المسؤولين الخليجيين بعد ان تعرف عليه وذكر له الوزير البريطاني انه من عائلة ترعى الاغنام في اسكتلندا قال له الخليجي اذن انت شيخ اسكتلندي, وبدأت هذه الطرفة تأخذ حظها في التكرير بشكل مختلف مع اختلاف المتحدث, فقد اصر بعض المسؤولين البريطانيين من اصل اسكتلندي على ان يكرروا انهم من القبيلة الحاكمة (حيث ان معظم المسؤولين الكبار في الحكومة العمالية الحالية هم من اسكتلندا) كما اصر من ليس له انتماء اسكتلندي من المتحدثين السياسيين والعسكريين على ان يقرروا في بداية حديثهم انهم (لا ينتمون الى القبيلة الحاكمة) بل ان احدهم اضاف انه ينتمي الى من بنى السور الكبير على الحدود الاسكتلندية ــ الانجليزية في القرن السادس عشر, ثم ضحك وقال (انظروا كيف تنتهي الحوائط والاسوار, لقد حكم بريطانيا اولئك الذين كنا نريد ان نعزلهم) ولكن بعيدا عن المزاح طرحت في المؤتمر قضايا عديدة جادة انتقي منها اربعا اراها مهمة او على درجة معقولة من الاهمية. القضية الاولى هي ما اذا كان هناك ربط بين الامن في الخليج وتقدم مسيرة السلام في الشرق الاوسط, وكان الاتجاه العام انه لو كان هناك تقدم في مسيرة السلام في الشرق الاوسط لاصبح بالامكان الحصول على امن اكثر في الخليج, حيث ان تطبيق قرارات مجلس الامن بكاملها والاتفاقات الدولية من كل الاطراف تعين على ان تلتزم بها كل الدول في المنطقة, ولكن كانت هناك وجهة نظر اخرى مضادة لتلك الفكرة عبرت عنها الاقلية في المؤتمر ولكنها عبرت عنها بشكل مقنع وكانت منصبة على انه لايوجد ربط بين القضيتين صحيح ان قضية السلام في الشرق الاوسط وتقدمها قضية حيوية ولكن ليس هناك رابط بينها وبين امن الخليج وكانت حجة هذا الفريق ان لو تم في الغد احراز تقدم في مسيرة السلام فهذا لا يعني ان تنتفي تلقائيا التهديدات الكثيرة القائمة خاصة التهديد العراقي, وان لم يحدث ذلك التقدم فان النتيجة تكون اعتقاد البعض بانهم في حل من امرهم للعبث بالامن في الخليج نتيجة ذلك ولقد اعترف الجانب البريطاني بعد النقاش انه ليس هناك ربط تلقائي بين القضيتين ولكن هناك شعورا عاما بأهمية الحصول على تقدم في مسيرة السلام لتخفيف الانتقادات القادمة من البعض والتي تريد الاصطياد في المياه العكرة. القضية الثانية كانت حول التهديدات المحتملة لامن الخليج, وقد طاف المتحدثون باشكال من تلك التهديدات بعضهم اعتقد انها قادمة اساسا من العراق وبعضهم اعتقد انها قادمة اساسا من ايران والبعض الاخر اشار الى التهديدات القابعة وراء الخلافات الحدودية بين دول الخليج نفسها على ان اخطر ما قيل في هذا الصدد هو ان الحدود الحالية بين دول الخليج قد تكون مصدر تهديد للأمن البيني لهذه الدول حتى تلك التي تمت بها اتفاقات دولية, وتلك اخطر اشكال التهديدات الكامنة, لان الامر هو الخلافات المتفاقمة حول الحدود والتي سوف تؤهل القوى الخارجية والاقليمية للتدخل للعبث بالامن عبر هذه الحدود. القضية الثالثة كانت هي العلاقة بالولايات المتحدة فقد كان هناك انتقاد من البعض خاصة من الجانب الخليجي بان الاتفاقات القائمة بين الولايات المتحدة ودول الخليج هي اتفاقيات ثنائية بين كل قطر خليجي على حدة وبين الادارة الامريكية والمطلوب تطوير هذه الاتفاقيات الامنية لكي تكون موحدة اي بين دول الخليج مجتمعة من جهة والولايات المتحدة من جهة اخرى وكذلك ينبغي ان تكون موثقة سياسيا من خلال الكونجرس الامركي وليس فقط من جانب الادارة القائمة, ولقد استغرق الموضوع نقاشا شاملا حيث ان هذه الاتفاقيات تفصيلية ومعقدة ووصلت اليها الاطراف المختلفة بعد مفاوضات مضنية, ومن الصعب ان تكون جماعية اخذا بعين الاعتبار ان الوضع التنسيقي صعب بين دول الخليج ذاتها. وزير الدفاع الكويتي الشيخ سالم الصباح قدم اطروحة الدفاع الخليجي على انها ذات توجهات ثلاثة اولها الاعتماد على الذات اي على القوة الخاصة بالبلد المعني, وثانيها التنسيق الخليجي ــ الخليجي, وثالثها التنسيق الدولي مع الاصدقاء وان هذه التوجهات فاعلة وقيد التنفيذ بدليل المناورات المشتركة خليجيا وعربيا واقليميا. ومن الواضح للمراقب ان هذا المؤتمر الخليجي البريطاني كان ناجحا من وجهة نظر الحكومة البريطانية, حيث ان العمال ولمدة ثمانية عشرة عاما كانوا بعيدين عن الحكم, ولم يكن لهم احتكاك مباشر بالمناطق الدولية المهمة وذات الحساسية الامنية الاقتصادية, والخليج واحد منها, برغم ان العلاقة بين بريطانيا والخليج علاقة تاريخية ولقد كان مشهودا في هذا المؤتمر الحضور البريطاني الدائم والمتعدد الاتجاهات فقد كانت هناك اركان الحكومة العمالية الابرز وبعض الوزراء داوموا خلال يومين على الحضور المكثف, وكان هناك ايضا اقطاب الحكومات المحافظة السابقة والمسؤولون في الحزب الثالث وهو حزب الاحرار الذي يشكل ثقلا لا بأس به اليوم في البرلمان البريطاني, وكان الملاحظ انه بعد ان تكلم المسؤولون الحاليون حول سياسة بريطانيا الامنية والخارجية, ان عقب على ذلك المحافظون والاحرار بأن هذه السياسة هي سياسة بريطانيا وهناك اجماع حولها, وبالنسبة لبعض فعاليات الجانب العربي كانت بعض التعليقات لافتة للنظر ومشهودة, خاصة تلك المؤكدة على وحدة الاستراتيجيات البريطانية برغم اختلاف الفرقاء السياسيين في الكيان الديمقراطي الواحد. لم تمر الندوة دون اثارة فقد كانت وجهات النظر مختلفة بعض الشيء لدى الجانب الخليجي كما هي مختلفة لدى الجانب غير الحكومي البريطاني ولو على المستويات التكتيكية, فالجانب الخليجي كان تأكيده ان مصادر التهديد مختلفة جزئيا, فالبعض وجدها من الخارج الاقليمي والبعض وجدها من الداخل الاقليمي, كما ان البعض طالب بأن تتدخل بريطانيا وديا في الحث على دفع مسيرة المشاركة السياسية في الخليج الى الامام لانها احد التحصينات الرئيسية للامن بمعناه الشامل واعترض البعض على هذا الطرح حيث انه تدخل في الشؤون الداخلية غير مرغوب فيه. في الميزان العام كانت هناك استفادة للجانبين فلأول مرة يحضر العسكريون والسياسيون والاكاديميون ندوة كهذه تداخلت فيها الاختصاصات واختلفت فيها الاجتهادات كما اتيح للجانب البريطاني ان يقدم رؤيته لسياسته الامنية والخارجية, وعلى حد قول جون ريد وزير الدولة لشؤون القوات المسلحة , وهو بالمناسبة من (القبيلة الاسكتلندية الحاكمة) : (ان سياستنا الجديدة هي الذهاب للمشاكل بدلا من انتظار مجىء المشاكل الينا) وهو قول اثنى عليه درك فاشت وزير الدولة للشؤون الخارجية بعد ذلك معقبا بان الدبلوماسية التي هي سياستنا لابد ان ترادفها القوة (كما قال كوفي عنان في بغداد) ولانه من النادر ان يكون هناك اقناع دبلوماسي في العلاقات الدولية دون ان ترادفه قوة, فقد تداعى بديهيا السؤال عن اين تكمن القوة البريطانية وهل هي ذاتية ام هي ذات اعتماد واضح على الحليف الامريكي؟ وجاءت الاجابة جامعة لتغطي في وقت واحد شقي السؤال وكان ذلك بديهيا ايضا. القضية الرابعة التي نوقشت كانت حول ان بريطانيا تحتضن الارهاب وتقدم ملاذا آمنا لاولئك المتطرفين العرب القادمين من اماكن عديدة من بينها دول الخليج, واستخدام لندن كمنطلق لاثارة المشاكل السياسية والاعلامية وكان رد الجانب البريطاني من زاويتين الاولى ان ليس هناك من يناصر الارهاب في الحكومة البريطانية وان هناك قوانين صارمة تردع الخارجين عليها وتطبق بحذافيرها وان اي نقص في هذه القوانين لابد من اكماله ولكن ذلك يأخذ وقتا اما الزاوية الثانية فهي ان بريطانيا تقليدياً مكان آمن لاولئك المطاردين من غير وجه حق, وهي مهتمة بحقوق الانسان ـ خاصة في الحكومة العمالية الحالية ــ وفي المناقشات ظهرت بين البريطانيين وجهات نظر متعارضة, بين السياسيين والاكاديميين على وجه الخصوص, بعضهم تحدث عن ضرورة التزام الحقوق الدنيا لمن يمتلك حقوق المواطنة وبعضهم تحدث عن ان اولئك الذين يدعون المعارضة ويزعمون تعرضهم للاضطهاد لا يؤمنون بالديمقراطية او حقوق الانسان اصلا. لقد مضى الاسبوع الخليجي السياسي في لندن حاشدا بالاطروحات والمكاشفات من الجانبين ورغم الشعور بالفراغ الذي يعقب الايام الحاشدة, فان الحراك الفكري السياسي لابد له من اصداء, وهي اصداء قد تبدأ بدعابة مثل دعابة الشيخ الاسكتلندي لكنها بالتأكيد تنتهي لتصب في اكثر الملفات جدية. * رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية

Email