لغم اسرائيل تحت الاقدامب : قلم: مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

في السياسة, كما في الحرب, وكما في لعبة الشطرنج, لا يتوقف نجاح اللاعب, أو المقاتل, على براعته في تحريك ما تحت يده من قوات وانما يعتمد اكثر ربما ألف مرة, على حسن ادراكه للهدف الحقيقي الذي يسعى اليه العدو , فيسعى أولا إلى احباط خططه, ولايسمح ابدا لنفسه بالوقوع في اي خطأ أو فخ يتيح للعدو الوصول إلى هدفه. والعدو ــ بطبيعة الحال ــ لا يعلن عن هدفه الحقيقي الذي يستهدفه من وراء تحريك اي من ادواته, وانما يحاول دائما ان يصرف الانظار عنه بالتلويح بشعارات مغايرة, تماما مثلما يلوح مصارع الثيران بعبائته الحمراء فيندفع اليها الثور الهائج بكل قوته, دون أن يلتفت إلى السكين الجاهز في يد المصارع للاجهاز عليه. والفلسطينيون, ومعهم العرب جميعا, يواجهون اليوم نفس الموقف في صراعهم ضد العدو الصهيوني, من اجل استعاده بعض حقهم المسلوب. فاللعبة التي يقوم بها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو منذ وصل إلى موقع السلطة بدأت برفع شعار (الامن مقابل السلام) بدلا من مبدأ (الارض مقابل السلام) الذي قام على اساسه مؤتمر مدريد, وانبثقت منه اتفاقيات اوسلو. والذي حدث هو اننا ـ اي العرب عموما والفلسطينيين بنوع خاص ــ انزلقنا بحسن نية وبحماس شديد إلى ارض المعركة التي اختارها نتانياهو, فانصرف همنا منذ البداية إلى التدليل على تناقض شعاره وسياساته مع المبادىء الاساسية لعملية السلام, وإلى التركيز على نكوصه عن السلام واصراره على عرقلة الجهود المبذولة في سبيله, ومدى خطر هذه السياسة على الاستقرار المنشود في الشرق الاوسط... الخ. وكل هذا صحيح, وحقيقي, ولكن ليس الحقيقة كلها. فشعار الامن مقابل السلام ليس هو الهدف الذي يريده نتانياهو, بل ان المقصود الاستراتيجي من رفعه في هذا الوقت بالذات ليس مجرد تعطيل عملية السلام أو حتى وادها ان استطاع اليه سبيلا. وانما الهدف الاهم لدى نتانياهو هو اتخاذ ذريعة الامن حجة لكي يضغط بها على السلطة الوطنية الفلسطينية حتى لا تجد منفذا سوى الدخول في صدام مسلح ضد جماعة حماس التي يزعم الاسرائيليون انها تهدد امنهم, وبالتالي تمنع التوصل إلى التسوية المنشودة تحت شعار (الامن مقابل السلام) . اذن فالهدف الحقيقي الذي يسعى اليه نتانياهو ومن على شاكلته هو ان يقاتل الفلسطينيون بعضهم بعضا, فيقتل بعضهم بعضا, منشغلين عن العدو المشترك الذي يواصل عمليات ابتلاع اراضي الضفة الغربية وتهويد القدس عن طريق توسيع المستوطنات واقامة المزيد منها, واحكام قبضته على الاراضي المحتلة, وتجاهله للمسار السوري الذي (لخبط عزلته) بطرح خدعة الانسحاب المشروط من لبنان, بينما يتسع نطاق نزيف الدم الفلسطيني, وربما اتسع هذا النطاق ليتحول إلى عملية استقطاب تشمل الوطن العربي بأسره, ليكون هذا غاية المراد من رئيس اسرائيل. وليكون هذا ايضا حجة تقدمها اسرائيل لحلفائها, وحتى للمحايدين الذين يأخذون الامور بظواهرها على ان المشكلة الحقيقية في الشرق الاوسط ليست هي النزاع العربي الاسرائيلي, وانما هي في النزاعات العربية العربية التي رأينا لها مثلا صارخا منذ سنوات في بشاعة العدوان العراقي ضد الكويت, وقبله في عبثية الحرب الاهلية في لبنان, وبعده, كما يخطط الاسرائيليون, في القتال الدامي بين حركة حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية. وقد تجدر الاشارة هنا إلى ان حركة حماس نشأت وترعرعت في داخل الاراضي المحتلة وهي خاضعة تماما تحت الاحتلال الاسرائيلي وان سلطات الاحتلال تعمدت على مدى سنوات عديدة ان تغمض عيونها عن نمو الحركة المتشددة, عسى ان تصبح ذات يوم من القوة بحيث تستطيع مناطحة نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية, وعلى اساس ان كل زيادة في بنيانها انما تعني في الوقت نفسه هبوطا في قوة منظمة التحرير, وعلى حساب شعبيتها. ويجب ان نعترف ان هذه السياسة بالفعل ساعدت كثيرا على انتشار وتوسع حركة حماس حتى وصلت إلى المستوى الذي يناسب المخطط الاسرائيلي, الا وهو ان تكون منافسا قويا للمنظمة, يمكن اذا دخلت في صدام مسلح معها ان تطول الحرب بينهما إلى اجل غير مسمى, وينفتح معها المجال لكي تتجمد عملية السلام إلى الاجل نفسه, حتى يتاح لاسرائيل تثبيت اقدامها في ابعاد اعمق, واعداد الترتيبات اللازمة للانطلاق بخطوات اسرع في طريق الهدف التوراتي الاسمى اسرائيل الكبرى. مرة اخرى, الهدف هو دفع السلطة الوطنية الفلسطينية إلى مزيد ثم مزيد من اتخاذ تدابير القمع ضد رموز حركة حماس وكوادرها, الامر الذي لابد وان ينتهي بانتفاضة هؤلاء للدفاع عن وجودهم في وجه سلطة القمع. وما دام السلاح موجودا بوفرة لدى الطرفين فان هذا كفيل باراقة اكبر قدر من الدماء, وتعميق الجراح والندوب بين الاشقاء إلى اقصى حد حتي لا يبقى امل في الشفاء. هذا هو الهدف الحقيقي لمناورة الامن مقابل السلام, وللضغوط الاسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة الامريكية على ياسر عرفات من اجل دفعه إلى الصدام مع حركة حماس. وهنا, لا اهمية بالمرة للبحث عن المتسبب في الصدام, وهل الحق مع عرفات المقتنع بأن الحصول على بعض المطلوب افضل من ضياع المطلوب كله؟, ام مع حركة حماس المؤمنة بأن وحدة التراب الفلسطينية غير قابلة للتجزئة, وانه لا سبيل للحفاظ على العرض واستعادة الارض سوى الكفاح حتى النصر أو الاستشهاد. نقول, ان هذا ليس هو وقت المفاضلة بين الطريقين, فهذه قضية يمكن ان يستمر الجدل حولها إلى الابد, وربما يكون من الافضل ان يستمر الصراع بين الرأيين. ولكن بشرط واحد هو الا يتحول هذا الصراع, تحت اي حجة كانت, وبأي شكل من الاشكال إلى صدام مسلح يقتل فيه الفلسطينيون بعضهم بعضا, ويصيب البناء العربي المشروخ اصلا بشرخ جديد, اكثر عمقا واصعب اندمالا. ان المعركة من اجل الحفاظ على الصف الفلسطيني حتى لا يتحول إلى اشتات يستنزف بعضه بعضا لتصب دماؤهم جميعا لصالح العدو الاسرائيلي تحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة لدى قادة وكوادر كل من منظمة التحرير وحركة حماس, ربما اكبر من الشجاعة التي تحلى بها ذات يوم ياسر عرفات يوم رحب بسلام الشجعان مع رابين. فلندع الله... لعلهم يفلحون.

Email