مع الناس: بقلم - عبد الحميد أحمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

خطأ نزار قباني أنه اعتقد, كما قال مؤخرا, أن قلبه مصنوع من حديد, لذلك راح يستعمله بلا هوادة حتى آخر أيام حياته, كما يستعمل الشاب قلبه للحب والعشق والغرام والفتون, وهو الذي مات عن 75 عاما , أي عن عمر عادة ما يتوقف فيه القلب عن أي نشاط عاطفي أو غير عاطفي, باستثناء عمله الطبيعي, ضخ الدم ان أمكن. طبعا قلب الحديد لا يمكن ان يعشق كما فعل نزار, الذي أثبت في حياته ومماته اخلاصه لأمرين: الشعر والحب, فهو ظل يكتب الأول حتى أنهك قلبه وظل يعيش الثاني حتى أنهك شعره, ما يدل على أن قلبه قد من عشق ومن جذوة غرام, لم تنطفىء منذ أشعلها في شبابه, ومتى كان ذلك؟ الله أعلم. مع ذلك هناك من سوف يسأل ويتساءل: هل كان نزار محبا وعاشقا حقا؟ وهو سؤال مثير للشك قطعا, فنتركه لمن يعرفه أو من هو قريب منه أو للنقاد الفنيين الذين يمكن أن يستخلصوا من شعره إجابة بالتأكيد او بالنفي, غير أن المعروف عنه ومن شعره أنه يهوى النساء بلا حدود وحتى آخر العمر, ومن بغداد الى الصين ومن دمشق وبيروت وطليطلة ومراكش والقاهرة وباريس وتورينو وحتى حدود الشمس, فكانت المرأة وقود شعره ومجال ابداعه الحيوي وطاقة عطائه المستمر المتدفق كالشلال. هو إذن, شاعر المرأة, كما يراه البعض, فيما يرفض هو مثل هذه التسمية او التصنيف, فكل تسمية حبس, وهو يرفض الحبس والسجون بأشكالها, فلعله إذن يفضل على كل مسمى: شاعر الحرية! غير أن شاعرا مثل نزار سوف يرفض أيضا لقب شاعر الحرية وان اعتز به, كما يرفض شاعر الحب او المرأة او غير ذلك من ألقاب, ويكتفي منها جميعا بأنه نزار قباني, كما رفض أيضا تصنيفه الأدبي بين شاعر حداثي او كلاسيكي, او شاعر مجدد او تقليدي, وبين شاعر رومانسي أو واقعي وغير ذلك من مدارس, ولعله يكتفي من كل ذلك بقول: أنا الشعر والشعر أنا! ولا أعرف شخصيا ان كان نزار قد قال هذا يوما أو كتبه في احدى نثرياته التي تضاهي شعره عذوبة ورقة وخيالا وبلاغة, وان كان هذا الوصف هو الاقرب الى نسيجه الذهني والعاطفي والفكري والنفسي, حيث نرجسية الشاعر تظهر بأقصى ما يمكن, غير انها لعدم إساءة الفهم نسارع بالقول, انها نرجسية مطلوبة حيث الشاعر يعتد بشعره وافكاره وقضاياه ومصيره معا فلا يبدل أيا منها, فيما هو بشخصه وسلوكه ينحاز الى النبل والتواضع والكبرياء, من دون مشاعر عظمة كالتي تصيب النرجسيين. وبما أن نزار حارب النرجسية نفسها وجنون العظمة والتخلف والهزيمة وبطش القادة والظلام, ودعا الى الحرية والنور والعدالة شعرا وكلمات وموقفا, فقد أمكنه من أن يحول الشعر من مادة نخبة الى خبز يومي للناس, سواء عبر تداول دواوينه جهرا وسرا أو بترديد أبيات محفوظة من شعره تمتاز بالسهولة والعمق والمعنى معا, وفي هذا ما يكفيه من اجماع الناس عليه, وان كان لم يخل شعره الصاخب من ملاحظات وخلافات وصلت أحيانا الى حد الهجوم عليه, ومنعه مع شعره من دخول بعض البلدان. طبعا الذي فصل من جلد النساء عباءة وبنى أهرامات من الحلمات سوف يثير اقسى ما يمكن من خلاف, وهو الخلاف الذي لم يكن يخشاه نزار على الاطلاق, لأنه يقر أن من أدوار الشعر الاستفزاز واثارة الغضب والخلافات, وهو ما كانت مسيرته الشعرية تقوم بها عبر خمسين عاما واكثر, ما يكفي لجعل نزار قباني علامة فارقة لوحده في الشعر العربي كله ان لم يكن مدرسة بذاتها!

Email