في الأزمة العراقية المتجددة: البينة على المدعي: بقلم - يحيى هاشم حسن فرغل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو اعتز المسلمون ــ حقا ــ بمبادئ ثقافتهم الاسلامية لأعلنوا على كل لسان: ان العراق اليوم ليس مطالبا قط بتقديم الادلة على تخلصه من أسلحة الدمار الشامل, عملا بمبادئ العدالة الانسانية الشاملة التي قررها الاسلام في مبدئه الشهير: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) , وهذا يعني: ان خصوم العراق هم المدعون, وهم المطالبون بالأدلة ــ التي يفتقدونها ــ على مايزعمون. لكن القضية في أصلها لا تنتمي الى حقل العدالة ولا الى الاسلام في شيء. ومن قبل عندما بدأ المشهد المعروف بـ (أزمة تفتيش القصور الرئاسية) من الدراما المصنوعة في مطبخ الاستراتيجية الغربية العاملة على تنمية مشكلات الشرق الاوسط!! لم يصدق أحد انه هو المشهد الاخير الذي ما على العراق الا ان يسهم فيه بانهائه بنعومة وفقا لأوامر الاساطيل الغازية, لكي ينبلج صبح المشهد الختامي الذي يحسبه الظمأن ماء في رفع العقوبات عن الشعب العراقي المسلم. والآن لقد انتهى هذا المشهد وهاهو تتلوه مشاهد اخرى لايزال منها الكثير في جعبة الاستراتيجية الغربية العاملة على تنمية مشكلات الشرق الاوسط لحساب مصالحها القومية. وتسفر هذه المشاهد الدرامية عن نتائج تتأكد الآن بعد ان كانت موضع الجدل من قبل واصبحت عناصر ضرورية ليتمكن المسلمون من بلورة موقفهم النهائي من هذه الازمة. اصبح من المؤكد ان ليس المقصود التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل, ولكن المقصود هو التفتيش عن العقول التي تصنع الاسلحة, ومطاردتها الى الابد, لا على مستوى العراق وحده,, ولكن على مستوى العالم العربي والاسلامي كله, وليس هذا استنتاجا ولكنه حقيقة اكدها وزير الخارجية البريطانية في تصريح له نشرته جريدة الخليج في 15/2/1998 عندما قرر ان قلقهم (انما هو من قدرة العراق على تطوير اسلحته في المستقبل) . لقد تبين ان المقصود هو القضاء على اطفال وشباب الشعب العراقي العربي المسلم وضرب عناصر الحيوية والقوة فيه, ولقد شهد من اهلها في خطاب ارسله 54 اسقفا كاثوليكيا الى الرئيس الامريكي في 20 يناير الماضي قالوا فيه (ان العقوبات التي انهت حياة اكثر من مليون شخص في العراق, 60% منهم اطفال عمر الواحد منهم اقل من خمس سنوات) , وشهدت منظمة (اصوات من البرية) وهي تحاول جمع معونات طبية من مختلف الاماكن في الولايات المتحدة لصالح شعب العراق... ان الحكومة الامريكية ابلغتها ان ذلك مخالف للقانون. وتبين ان جانبا من الشعب الامريكي ادرك المنطق الحقيقي للحرب المشرعة ضد الشعب العراقي العربي المسلم, وانها (حرب عنصرية) , وهي تسمية تحمل تصحيحا واجبا, جاء من طلبة جامعة اوهايو الى الاعلام العربي المسلم لكي يلتزم بها في تسمية هذه الحرب. ولقد تبين كما يقول جورج جالو اي عضو مجلس العموم البريطاني في حديث تلفزيون اذاعته قناة الجزيرة: ان اول من استعمل الاسلحة الكيماوية هم البريطانيون ضد الشعب العراقي بالذات, في العشرينات, بقيادة ونستون تشرشل, ولو صح الزعم بأن العراق يجب ان يجرد من هذه الاسلحة لمجرد انه اخطأ في استعمالها مرة أو مرتين من قبل لكان يجب تجريد بريطانيا منها, ولكان يجب تجريد الولايات المتحدة منها كذلك, فهي أول من استعمل السلاح النووي ضد هيروشيما ونجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية ولو صح ذلك لكان من الواجب تجريد الولايات المتحدة وامريكا معا من هذه الاسلحة اذ انهما هما اللذان امدا العراق بمكونات هذه الاسلحة في اعوام 1985 و 1989 و 1992 . ان الكيل بمكيالين في مسألة اسلحة الدمار الشامل ما بين العراق واسرائيل وما يساق له من تبريرات مضحكة مبكية انما هو نوع من الاهانة والاستهتار بالعقلية العربية والاسلامية التي تدحض بقدمها تلك التبريرات فليس مبررا قط في ميزان العقل الاسلامي القول بأن العراق دون اسرائيل هو الذي يستعمل هذه الاسلحة اللهم الا ان يقال مثلا: ان اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلة غير قابلة للاستعمال او ان مالكي القرار في اسرائيل او في غيرها من مالكي هذه الاسلحة هم من الملائكة الذين لم نعرف عنهم انهم لوثوا ايديهم من قبل بدماء الابرياء في مساجدهم واوطانهم وانهم لو يستعملوا البلدوزرات في محو مساكن الضعفاء وتسويتها بالارض. انه لا فارق في نظر العقل الاسلامي بين الكيماوي والبيولوجي الذي يكون في فوهات اسلحة الدمار الشامل, وبين الكيماوي والبيولوجي الذي يكون في الاغذية والادوية ثم يمنع من الوصول الى مرضى العراق شيوخا ونساء واطفالا وشبابا لكي يموتوا بالالاف كل شهر بفعل سلاح العقوبات الوحشي وهو سلاح دمار شامل قطعا. وعلينا لكي نصدق تبريراتهم ان نصدق اولا انهم لم يضربوا هيروشيما ونجازاكي وشعب العراق نفسه باسلحة الدمار الشامل من قبل!! اضف الى ذلك انه في كتابهم المقدس (من كان منكم بلا خطىئة فليرمها بحجر) واين خطيئة من خطايا؟ لو قيست اولاهما على الثانية لكانت كاللمم منها؟ وهذا كلام يفهمه المسلمون!! ويفهم المسلمون ايضا بحسهم السياسي النابع من حضارتهم العريقة ومن تجاربهم الطويلة انه ليس من المقبول ولا من المعقول ان يرهنوا وجودهم ومستقبلهم لقاء خطيئة ارتكبت في منحنى تاريخي كئيب, وان يعطلوا مصادرقوتهم في الوحدة لقاء حالة نفسية وان يفتحوا ابوابهم لاحلال استعماري جديد لقاء ثأر. كما يفهمون الا فرق في عملية الضرب والتدمير بين ما هو للشعب وما هو للنظام بل يفهمون ان اية عملية من هذا القبيل تكون محصلتها النهائية خسارة فادحة وكارثة تاريخية للشعب نفسه مهما ادعى المدعون. يبقى بعد ذلك واضحا لكل ذي عينين ان العراق وهو اليوم في قفص الاتهام وعلى مرمى اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلية ليس له قدم واحد في ارض غيره فضلا عن الارض المسحوبة منه في الشمال والجنوب بينما اسرائيل تحتل اراضي ثلاثة شعوب عربية: فلسطين ولبنان وسوريا. واذا استمعنا الى شهادة جورج جالواي عضو مجلس العموم البريطاني كاملة فان الازمة كما يقول تجري في سياق التحالف الانجلو سكسوني الذي لايريد ان يرى بلدا عربيا قويا يمثل خطرا على اسرائيل وان الغرب عموما يريد ان يرى شرق اوسط متخلفا متمزقا ضعيفا وانه في كل خطوة يخطوها العراق الى الامام في تنفيذ قرارات الامم المتحدة فانهم يسبقونه بخطوة الى الامام, وانهم حين يزعمون انهم يريدون تخليص العالم من حكم دكتاتوري في العراق فانهم يزعمون باطلا لانهم يباركون ويدعمون انظمة دكتاتورية اخرى لمحض انها لاتتمرد عليهم. لقد تمكنوا اخيرا من وراثة الاستعمار البريطاني استعمارا لن ينتهي بغير كفاح وطني اسلامي وها نحن نراوح مكاننا تاريخيا منذ سقوط الدولة العثمانية: وما ذلك الا لاننا سمحنا في بعض الاماكن المحررة ان يسرق التحرر فيها طغمة من بعض العلمانيين. لقد تبين ان الضربة المعدة للعراق ــ ومن بعده لكافة اقطار الشرق الاوسط التي ترفض الاستسلام ــ مؤجلة, والا شيء يمكن ان يمنعها من اتفاق او غيره غير موقف عربي اسلامي. وفي سياق التصريحات التي صدرت من المسؤولين في البلاد العربية نقف تقديرا لتصريحات الفريق اول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد امارة دبي, متوجة بالتصريح الاخير لصاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة وهو يقول: (ان الضربة العسكرية ضد العراق امر مرفوض وسيىء وكريه). وكما يقول مفتي مصر الدكتور نصر فريد (واجبنا ان نناصر المظلوم خاصة اذا كان هذا المظلوم شعبا مسلما يتعرض للحصار وتحاك ضده المؤامرات نتيجة خطأ لقيادته). ان موقف المسلمين اليوم ــ استراتيجيا ــ من تدمير اسلحة الدمار الشامل العراقية دون الاسرائيلية... هو الرفض القاطع, وهم يوجبون على كل دولة اسلامية ان تكون لها اسلحة مكافئة رادعة للسلاح الاسرائيلي المجهز لفتح حدود اسرائيل الى غير حد, او تواضعا الى حدود هي من النيل الى الفرات, عملا بقوله تعالى (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وهنا تأتي فريضة الردع الذي تعمل به اسرائيل وكافة الدول الواقفة على رجليها في زحام القوة المعاصر. ليس من شأن المسلمين في هذه الازمة المتجددة ان يوجهوا الخطاب للشقيق في العراق بالمفردات نفسها التي في خطاب الطرف الآخر مع تقديم جملة وتأخير جملة. ان عليهم ان يمزقوا قميص الخوف الذي تم حشرهم, فيه, لينقذوا شرفهم ولينقذوا وجودهم, ولينقذوا الشعب العراقي من دمار, سوف يدمغهم تاريخهم بالعار لو انهم استمروا في تركه وحيدا بين فكي الاسد. ليس من شأن المسلمين اليوم ان يخاطبوا الشعب العراقي بمنطق التركيع, ولو تذرعوا في ذلك بنظرة عملية قاصرة, فهذا هو منطق الخنوع والذل والتخاذل والانبطاح في جميع العصور, وهو منطق الغاء تاريخ الكفاح لكل الشعوب ضد العدو الغاشم في تاريخ الانسانية كلها, وهو منطق تسفيه لكفاح اجيال انتمينا الينا. ان النظرة العملية الصحيحة يمكن ان تكون في منطق آخر يشل تماما حركة الغزو الاحتلالي, فقط لو تحول الاجماع العربي الاسلامي من حالة (الدعوة الى الركوع) تحت ذريعة: من هو المسؤول؟ الى حالة (المعارضة الصارمة) للحصار الوحشي الذي يتعرض له العراق او لأية ضربة توجه اليه, مهما كانت الاسباب, طالما انه ملتزم كما هو اليوم بحدود ارضه لا يتجاوزها, اذن لتغير وجه المعركة كليا, ولأصبح من المستحيل ان يعاقب العرب جميعا. مطلوب قرار عربي بفك الحصار من جهة العرب وحدهم لو لزم الامر. مطلوب قرار عربي بشيء من المفاضلة في التعامل الاقتصادي وفق اهدافنا الاستراتيجية العليا, ولا نطمح الى المقاطعة في حالتنا الراهنة كما دعا الى ذلك المفكر الراديكالي روجيه جارودي. مطلوب قرار عربي بالمقاطعة الثقافية للفن الوارد من بلاد العدو, لو فعلنا هذه فقط لارتجت اركان الاستراتيجية الموضوعة في اروقة الخبراء ضد العرب والمسلمين. مطلوب من الشعوب العربية ان تزداد وعيا وادراكا وايجابية, وان تزداد الحكومات العربية وعيا بأن في ذلك اقوى سند لها محليا واقليميا ودوليا. ان بأيدينا ان نفعل شيئا. استاذ العقيدة ـ قسم الدراسات ــ جامعة الامارات*

Email