هل تباع قناة السويس؟ بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

خبر صغير في صحف الاسبوع الماضي آثار ضجة لم تنته, ولا أظنها ستنتهي قريبا, الخبر عن بيع شركات تابعة لهيئة قناة السويس أو تملك الهيئة معظم اسهمها . ورغم نفي رئيس الوزراء اي نية لبيع قناة السويس, وتأكيده على انه لا يمكن لأي رجل وطني ان يقبل ان تكون هيئة قناة السويس او اي من المشروعات السيادية مجالا للخصخصة. فان الملف لم يغلق, بل آثار اكثر من قضية لابد ان تطرح للنقاش وان تكون مجالا لحوار طويل بين كل القوى السياسية في مصر... وربما في العالم العربي كله. القضية الاولى التي تثيرها الضجة الحالية هي قضية قناة السويس كرمز وطني لكفاح طويل من اجل التحرر والاستقلال. ان القناة التي شيدت بدماء الفلاحين المصريين والتي سقط خلال انشائها 120 الف مصري, وتحولت بعد ذلك الى دولة داخل الدولة, واصبحت العمود الفقري للامبراطورية البريطانية, والتي عاشت سنوات تحت الادارة الاجنبية صرفت فيها مصر من الايرادات الهائلة التي ذهبت الى جيوب المستغلين الاجانب, قد تحولت الى رمز للارادة الوطنية عندما اممها عبد الناصر عام 1956 وأعادها الى سيادة مصر, وفتح الباب امام كل الشعوب المغلوبة على امرها لتنهي السيطرة الاجنبية على مقدراتها ولتحقق السيطرة الكاملة على مواردها وتضعها في خدمة شعوب طال حرمانها. وكما دفعت مصر عشرات الالاف من الشهداء في حفر القناة, دفعت ايضا الثمن غاليا وهي تصد العدوان الذي شنته فرنسا وبريطانيا ومعهما اسرائيل لاسترداد القناة وتركيع مصر التي جرؤت على التحدي. دفعت مصر الثمن وانتصرت لنفسها, وللعرب, ولكل الشعوب المقهورة والتي عرفت بعد حرب السويس طريقها للحرية. الآن... تثور الضجة حول بيع قناة السويس, وهي لا تأتي من فراغ فلقد سبق للبعض ان اطلق مثل هذه الدعوة قبل خمسة عشر عاما, وقبل ان يمتد برنامج الخصخصة ويأخذ الابعاد التي يأخذها الآن في مصر والعالم كله ويومها قامت عاصفة من الاحتجاج من رأي عام صدمته المفاجأة التي مثلها الاقتراح الذي تجاهل ما تمثله القناة لأمن مصر ولدورها ولضميرها الوطني. ثم ثارت المخاوف قبل شهور مع تسريع برنامج الخصخصة وامتدادها لمجالات حيوية من ناحية, ومع قرار مفاجىء صدر بوضع الهيئة المشرفة على القناة تحت الاشراف المباشر لرئيس الوزراء, وبحيث لا يعتمد اي قرار من مجلس ادارتها الا بعد اعتماده من رئيس الوزراء. وكان التبرير الذي قيل لصدور هذا القرار ساذجا, فقد قيل ان السبب ان رئيس الهيئة ارسل قرارات مجلس ادارتها الى رئيس الوزراء مع تأشيرة تقول انه يرسلها للعلم! لم يقتنع احد بأن هذا هو السبب, خاصة ان ادارة الهيئة بعيدا عن الاشراف المباشر لرئاسة الوزراء كانت ناجحة بكل المقاييس, بل انها كانت النموذج الذي يضرب به المثل على قدرة الادارة المصرية على النجاح عندما تتحرر من الروتين وتملك القدرة على اصدار القرار في الوقت المناسب, , وتملك الحرية في مواجهة المتغيرات بقرارات لا تنتظر التعليمات من فوق. لم يقتنع الناس بما قيل من مبررات, وانتظروا الاسباب الحقيقية ولم يطل الانتظار, فمع خبر بدء بيع بعض الشركات التابعة لهيئة قناة السويس, بدأت المخاوف تظهر, وحتى التأكيدات التي قيلت في الرد على المخاوف لم تبدد السحب ولم تطرد الشكوك... فالناس تذكر التأكيدات التي تكررت عشرات المرات بأن قلاع الصناعة المصرية لن تعرض للبيع وترى في نفس الوقت اكبر هذه القلاع يدخل سباق (الخصخصة) ... بدءا من مجمع الالمونيوم وحتى الحديد والصلب, وحتى مصانع غزل المحلة الشهيرة التي يتم الآن تفكيكها الى وحدات صغيرة حتى يسهل البيع والشراء! وهذا ينقلنا الى القضية الاخرى التي تثيرها الضجة حول قناة السويس الآن... وهي قضية (الخصخصة) في حد ذاتها, وما يثار حولها من آمال وما تثيره من مشكلات. * بالنسبة للمواطن العادي فقد قدمت (الخصخصة) على انها الحل السحري لكل المشكلات, وقيل انها ستؤدي ــ بكل تأكيد ــ لتحسين الاداء وخفض الاسعار ووقف نزيف الخسائر في بعض شركات القطاع العام. حتى الآن... فان ما يلمسه المواطن العادي عكس ذلك على طول الخط. واذا اخذنا شركة مثل (الكوكاكولا) التي بيعت مصانعها بأقل من سعر الاراضي التي اقيمت عليها, فان النتائج تقول: ان اسعار منتجاتها تضاعفت, وتم الاستغناء عن عدد كبير من العاملين فيها, وبعد ان كانت الشركة ــ قبل بيعها ــ تحقق ربحا سنويا قدره 40 مليون جنيه يدخل في خزينة الدولة اظهرت الميزانية بعد البيع ان الشركة خاسرة.. كيف؟! علم ذلك عند اصحاب الشركة الجدد, وخبراء التلاعب بالميزانيات والتهرب من الضرائب. اما بالنسبة لرجال السياسة والاقتصاد, فالخصخصة كانت وسيلة لضخ المزيد من رؤوس الاموال في شرايين الاقتصاد, وخلق المزيد من فرص العمل, واطلاق كل الطاقات الممكنة لخلق اقتصاد قوي قادر على المنافسة في اصعب الظروف. هذه الرؤية تصطدم بلا شك مع مصالح فئة من السماسرة ووكلاء المصالح الاجنبية غير البريئة التي لا تضيف للاقتصاد المصري شيئاً, وإنما تستخدم اموال البنوك المصرية في (اقتناص) شركات القطاع العام المعروضة للبيع بأقل الاسعار, ثم تسليمها لمن يدفع الثمن الحقيقي, حتى ولو كانت مصالحه تتضارب مع مصلحة مصر. * الاهم من ذلك ان برنامج (الخصخصة) قد تم فرضه في ظروف لم تكن موائمة لمصر, حيث كانت الديون قد بلغت حد الخطر, وكان على مصر ان تدفع ثمن اخطاء فادحة تم ارتكابها في مرحلة سابقة. لقد كانت مصر مؤهلة لأن تحقق في السبعينات اعظم انطلاقة اقتصادية ممكنة. كانت القاعدة الصناعية قد تم ارساؤها في الخمسينات والستينات, وكان جيل جديد مؤهل بالعلم ومسلح بالوطنية قد صعد إلى قمة المسؤولية في كل المؤسسات, وكان الظرف التاريخي يهيئ لمصر كل اسباب الانطلاق, فقد توفرت في تلك الفترة لمصر من الموارد ما لم يتوفر لها من قبل. كانت قناة السويس قد عادت للعمل ومعها مئات الملايين من الدولارات التي حرمت منها مصر عدة سنوات منذ حرب 1967, وكانت السياحة قد عادت بعد غياب, وكانت تحويلات المصريين في الخارج قد بلغت ارقاما غير مسبوقة (قدرت بعشرة مليارات جنية سنويا) وكانت اسعار البترول قد ارتفعت, وآبار البترول في سيناء قد عادت, ومصر تصدر البترول بعد ان كانت تستورده! كانت هذه الموارد كافية لكي تعيد مصر بناء اقتصادها بعد حرب 73, ولكن للأسف الشديد, تم تبديد هذه الموارد, وتم اغراق مصر في حلم امريكي كاذب بأن الرخاء سيأتي من امريكا, وتم تبديد موارد مصر في السبعينات في استهلاك باذخ, وخرجت مصر من هذه السنوات وهي غارقة في الديون. ولقد مرت سنوات عصيبة على مصر في بداية الثمانينات وهي تعالج ما فعلته سياسات السادات الاقتصادية من آثار رهيبة, والتي مازالت آثارها تمتد معنا حتى الآن. لقد مرت تلك الايام الصعبة التي كانت مصر تعاني فيها من اجل تسديد اقساط الديون, وتم ذلك عبر سياسات مالية صارمة اثبتت ان الاساس المتين للاقتصاد المصري مازال بخير ومازال قادرا على تطوير نفسه, إن حجم الاحتياطي في خزينة مصر الآن يزيد على 18 مليار دولار, وهو امر يمنحها الطمأنينة والثقة, ولكن التحديات هائلة والثمن الذي دفعته مصر لاجتياز الازمة لم يكن قليلا. ان حجم الدين الداخلي قد بلغ 150 مليون جنيه, والديون الخارجية تزيد على 30 مليار دولار, وتستغل الحكومة حصيلة بيع القطاع العام لمعادلة الموازنة وتخفيض العجز فيها... ولكن الى متى؟ ان الدكتور الجنزوري في تصريحه الذي نفى فيه بيع قناة السويس يورد ارقاما لها اهمية, فهو يقول ان ما تم بيعه هو 12% من القطاع العام بقيمة 8.5 مليارات جنيه, وان القيمة الكلية للقطاع العام هي 70 مليار جنيه. والسؤال هنا: وماذا بعد ذلك؟ وماذا بعد ان تفقد الدولة مواردها من هذا القطاع الهام وهي ليست بالقليلة؟ وهل ستجد نفسها في ذلك الوقت مضطرة الى الاقتراب مما لا يجوز الاقتراب منه... وطنيا, وامنيا, واستراتيجيا, واقتصاديا؟ ان اخطر ما تكشفه الضجة الحالية حول قناة السويس , هو غياب المعلومات, وفي ظل غياب المعلومات يكون من الطبيعي ان تزداد الشكوك والمخاوف. ان ما يسمى ببرنامج الاصلاح الاقتصادي مازال برنامجا سريا, والتزامات الحكومة امام صندوق النقد لم يكشف عنها النقاب, ورفضت الحكومة السابقة كشفها امام مجلس الشعب, واذا كان الرأي العام قد عرف اين تبدأ هذه الالتزامات فهو بالقطع لا يدرك اين تنتهي. ان الضجة التي ثارت حول ما نشر عن بيع قناة السويس تضع الجميع امام التزاماتهم. ان تأكيد الحفاظ على قناة السويس بعيدة عن اي تدخل اجنبي لا يكفي, المطلوب الآن ان يتم الكشف عن تفاصيل برامج الاصلاح القادمة, ليدخل المجتمع كله في حوار حولها يحقق هدفين اساسيين... اولهما ان يكون البرنامج تعبيرا عن مصالح الغالبية العظمى وبالتالي يحظى بتأييدها ودعمها وهما السبيل لنجاح اي برنامج. اما الهدف الثاني من الحوار المنشود فهو ان يعرف الجميع ما هو المباح وما هو الممنوع اقتصاديا وسياسيا. نقول ذلك ونحن نعلم ان السلطة في مصر تقاوم ضغوطا امريكية للتفريط فيما لا يجوز التفريط فيه. ونحن نتوقع ان تزداد الضغوط, وفي مواجهتها لابد من سياسة واضحة يساندها رأي عام يعرف, ويقرر, ويدافع عن قراره. الحوار مطلوب الآن... والخلافات فيه ستكون كثيرة, ولكن نقاط الاتفاق ايضا ستكون كثيرة... واولها انه لا تفريط فيما يمس امن الوطن ويجسد كفاحه من اجل الحرية والاستقلال, وانه لن يبني مصر الا المصريون ولن يقف بجانبها إلا العرب الذين علمتهم التجارب ان مصر القوية المستقرة هي حصن الامان للجميع. اما الوعود بزرع الجنة الامريكية على ارضنا. فنحن ــ بعد ربع قرن ــ نعرف اهدافها, ونعيش ثمارها المرة.

Email