كيف يتعامل العرب مع ثورة المعلومات؟ بقلم - د. على الدين هلال

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاركت مؤخرا في ندوة عقدها معهد البحوث والدراسات العربية, التابع للجامعة العربية, عن موضوع: (نحو استراتيجية مشتركة للدراسات المستقبلية العربية) . وقد شارك فيها عدد كبير من المتخصصين العرب في مجال البحوث المستقبلية في العلوم الاجتماعية. وتناولت الندوة الدروس المستفادة من خبرة الدراسات السابقة في مجال المستقبل العربي, وكيفية احداث نقلة نوعية في هذه الدراسات, والعوامل المؤثرة على تفعيلها في البلاد العربية. وكانت مشاركتي في المحور الخاص بثورة المعلومات وعلاقتها بالدراسات المستقبلية, ذلك انه اذا كنا نسعى للتخطيط للمستقبل, ودراسة الصور المختلفة التي يمكن ان يتخذها, فان احد الجوانب الرئيسية لذلك هو فهم شكل النظام العالمي الذي نعيش فيه,والقوى المحركة او الدافعة له, والتي يأتي على رأسها الثورة العلمية والتكنولوجية, وفي قلبها ثورة الاتصالات والمعلومات. والصلة بين (ثورة المعلومات) و(الدراسات المستقبلية) وثيقة وحميمة. فمن المؤكد, انه لا يمكن اجراء اي بحث, او عمل اية دراسة, بدون معلومات دقيقة وصائبة. ومن الناحية الاخرى, فان ثورة المعلومات تغير شكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في العالم المعاصر. والذين يتعاملون مع ثورة المعلومات يدركون, على الفور, الاثار المختلفة لهذه الثورة, والتي يمكن ايجازها في جملة واحدة هي: (سقوط الحدود والحواجز والمسافات) . فهي, من ناحية, أدت الى اختزال الحدود السياسية والقانونية بين الدول والقارات. ويستطيع اي انسان من خلال شبكة الانترنت ان يتصل بمن يريد في اي مكان من العالم,وان يتفاعل معه, ليسقط بذلك حاجز المكان. وهي من ناحية ثانية, اسقطت حاجز الزمان, وفروق التوقيتات بين دول العالم. ثم هي, من ناحية ثالثة, اسقطت المسافة بين (الداخل) و(الخارج) . فلمدة طويلة, كان المتخصصون في علوم كالسياسة والاقتصاد والاجتماع, يميزون بين (العوامل الداخلية) و(العوامل الخارجية) , ويقصدون بالاولى, تلك العوامل النابعة من داخل المجتمع او الدولة, وبالثانية, تلك النابعة مما وراء حدود الدولة, من الخارج القريب او البعيد. وأتت ثورة الاتصال والمعلومات لتزيد من ترابط العالم وتداخله, بحد جعل من الصعب للغاية استمرار الحديث عن هذا التمييز. ثم انها, من ناحية رابعة, أدت الى الغاء المسافة بين الواقع والخيال والى بروز ما يسمى (بالحقيقة التخيلية) , وهي ذلك العالم الملىء بالاحداث والوقائع والاخبار والتفاعلات, التي تتم عبر شبكات الاتصالات. فمن خلال هذه الشبكات, يستطيع الانسان ان يتجول في متاجر كبريات العواصم الاوروبية والامريكية, وان يشاهد السلع, وان يختار من بينها ما يريد, وان يدفع ثمنها من خلال النقود البلاستيكية. كما انه يستطيع ان يتعرف على احدث موديلات السيارات, وعلى مزايا كل منها, وان يقارن بينها, ثم ان يختار ما يريده, وهو ايضا يستطيع ان يشاهد احدث الافلام التي انتجتها استديوهات هوليوود, وان يستمع الى احدث الاغاني العالمية, وان يشتري تذكرة طائرة, وان يحجز في فندق. انه يستطيع ان يفعل كل ذلك وهو في منزله من خلال شبكات الاتصال. وبقدر ما تصح المقولة السابقة (سقوط الحواجز والمسافات والحدود), فانه لا ينبغي قبولها على اطلاقها ودون تحفظ او تمحيص. فثورة المعلومات من الصحيح انها تسقط هذه المسافات والحواجز بين دول العالم الاول, اي بين الدول المتقدمة, لكنها تقيم ـ في نفس الوقت ـ حاجزا جديدا, وسدا عاليا, بين تلك الدول المتقدمة المنخرطة في ثورة المعلومات وبين اغلبية الدول النامية, ومنها الدول العربية البعيدة عن هذه الثورة. ان السؤال المحوري اذن هو: كيف يشارك الوطن العربي في هذه الثورة؟ وعندما اذكر تعبير المشاركة, فان المقصود هو الانتقال من فئة (المستهلكين) لخدمات شبكات المعلومات الى (المشاركين) في صنع قواعد معلومات خاصة بنا وببلادنا, فاذا كنا نشجع استخدام اكبر عدد من الباحثين والمواطنين العرب عموما لشبكة الانترنت, فان السعادة ستكون اكبر عندما يزداد عدد المواقع على الانترنت باسم هيئات ومنظمات وجامعات عربية. ان المشاركة الفعالة في ثورة المعلومات تتطلب اذن ان تقوم الهيئات العربية المختلفة ببناء قواعد البيانات الخاصة بها, والتي تأخذ مواقعها على شبكة الانترنت. ومن ثم, تصبح الشبكة فعلا (أداة تفاعلية) , فهي من ناحية, تكون نافذة لنا على العالم, ثم هي, من ناحية اخرى, تكون نافذة للعالم علينا, يستطيع العالم من خلالها ان يتعرف على وجهات نظرنا, ونستطيع نحن ان نثبت مانريد ان ننقله من أخبار او آراء او جهات نظر. واذا كان هناك شعور متزايد لدى النخب السياسية والثقافية العربية بأهمية المشاركة في ثورة المعلومات, فانه من الضروري ايضا الانتباه الى التحديات التي تواجه تحقيق ذلك,والمتطلبات التي ينبغي توفرها لانجازه. ولعل اولى هذه المتطلبات هي تلك المتعلقة بالجوانب الفنية والتقنية, والتي تتمثل في: تطوير البنية الاساسية للمعلومات, وتحديث البنية المعلوماتية, وتدريب الكوادر البشرية المختلفة, وكلها مسائل فنية يمكن التعامل معها وتجاوزها. اما النوع الثاني من المتطلبات, فهو ذلك المتعلق بضرورة ذيوع ما يمكن تسميته (بثقافة المعلومات) , اي الاحساس بأن المعلومات امر هام, وبحث يشعر المسؤول, او صانع القرار ـ على اي مستوى اداري او سياسي ـ بالحاجة الى المعلومات كجزء من عملية صنع القرار او رسم السياسة. ولا ينبغي ان نفترض وجود هذا الاحساس! ويستطيع المرء ان يعطي امثلة لكثير من القرارات السياسية او الاقتصادية التي اتخذت, في عدد لا بأس به من بلادنا العربية, بدون الاستفادة من المعلومات التي كانت متاحة قبل اتخاذ القرار. ومعنى هذا, ان الشعور بالحاجة للمعلومات هو امر ينبغي تعلمه, وممارسته,واقناع اكبر عدد ممكن ممن هم في مواقع المشاركة في صنع القرار بضرورته, وبأن المعلومات هي عنصر رئيسي لرشادة القرار. وترتبط بذلك قضية اجتماعية اخرى لا تقل اهمية, وهي وجود قطاعات عربية عريضة ما زالت تعاني من (الامية الابجدية) . فاذا كانت بعض المجتمعات العربية تتسع فيها دائرة الامية لتصل الى النصف تقريبا, فكيف يمكن المشاركة في ثورة المعلومات والاتصالات, او الاستفادة منها, في ظل هذا الوضع. ثم ان تطوير البنية الاساسية للمعلومات, وتحديث البنية المعلوماتية في اي مجتمع, يتطلب بالضرورة استثمارات مالية كبيرة. وهنا, تثار قضية الاولويات, وهل تكون الاولوية للانفاق على مشكلة الامية, او بناء المدارس, او تحسين اوضاع المدرسين, او توفير الحد الادنى من البيئة الكريمة للطالب في المدرسة, ام تكون الاولوية لشراء اجهزة حاسابات..؟ ومثل هذا الجدل مثار في عدد من الدول العربية ذات الموارد المحدودة. ثم يبقى بعد ذلك اعتبارات تتصل بالشفافية وتدفق المعلومات, التي تتطلبها المشاركة في هذه الثورة. فهذه المشاركة ـ بحكم التعريف ـ توجد نوعا من (اللامركزية المعلوماتية) وتؤدي الى توفير اكبر قدر من المعلومات لاكبر عدد من الناس, والى الغاء ما يمكن تسميته بـ(الطبقية المعلوماتية) والتي كانت بمقتضاها المعلومات حكرا على عدد قليل من الناس. اذا كانت ثورة المعلومات الراهنة تقدم فرصة ـ غير مسبوقة ـ في تاريخ البشرية للمعرفة والتعلم الذاتي والتفاعل, فانها تنطوي ايضا على مجموعة من الاخطار والتحديات: منها, ان هذا التفاعل يتم بلغة واحدة, وهي اللغة الانجليزية, ومنها, ان النسبة الاكبر من قواعد المعلومات الموجودة على الشبكة الدولية للانترنت مصدرها الولايات المتحدة, وان هذه الشبكة بها مواقع للمعلومات تتضمن ما هو مناف للاخلاق والمبادىء والقيم العامة في بلادنا العربية. وهكذا, فان ثورة المعلومات تمثل (فرصة) من ناحية, لكنها تواجهها (تحديات) و(عقبات) من ناحية ثانية, وتتضمن (محاذير) و(مخاطر) من ناحية ثالثة. وما بين هذه الجوانب المختلفة, ينبغي ان يكون منهج التفاعل العربي معها. فرغم المحاذير الواردة, الا ان الحل لا يمكن ان يكون بمقاطعة هذا التحول الجاري في عالمنا, وانما يكون بالمشاركة الرشيدة التي تعظم (الفرص) و(المنافع) وتقلل من مغبة (المثالب) و(المحاذير) لان البديل هو (تهميش) المنطقة العربية, و(تعاظم) الشقة او الفجوة بينها وبين دول العالم المتقدم. والمطلوب ان تكون هناك استراتيجية للمعلومات في كل دولة عربية على حده, ثم استراتيجية عربية اخرى عامة, وبحيث نصل الى منهج يتعامل مع قضية المعلومات بعيدا عن النظرة (المثالية) او (الحالمة) , التي ترى فيها حلا لكل مشكلة, وبلسما شافيا لكل داء, وان كل ما هو مطلوب منا هو قبول كل ما يأتينا من الخارج دون تمحيص او تدقيق, وبعيدا ايضا عن النظرة (الاستخفافية) او (الاستعلائية) , التي تنظر الى هذه الثورة وكأنها لن تغير شيئا, وكأننا نستطيع مقاطعتها دون ان يلحق بنا اذى او خطر. ومن المطلوب ايضا تشجيع ثقافة واعية للمعلومات, وتطوير (جهاز المناعة) الاخلاقية والوطنية, بحيث نستطيع الاستفادة من هذا التطور الحاكم في تاريخ البشرية بأقل اضرار ممكنة. عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية*

Email