مراجعة ثقافية .. عابرة: بقلم - د.عبد الله عبد الرحمن سعيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما وصف ماركس المثقفين بأنهم (حثالة المجتمع) ربما احتقارا اكثر مما هو وصف نقدي وعلى اساس انهم مذبذبون في ممارستهم لا ينتمون لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء انما انتماؤهم هو دائما لمن يدفع اكثر واذا ما اختار ماركس ان يبقى عليهم احياء في خضم عنف ودموية ثورته الطبقية فعلى اساس انهم كما خدموا للبرجوازية وفي ظلتها فإنهم لن يترددوا في خدمة البروليتاريا وبشكل افضل ايضا. مقولة قديمة تجاوزها الزمن الا انها غالبا ما تلاحظ في التحولات الاجتماعية التي ألمت بعوالمنا الحاضرة مواكبة الانقلابات الايديولوجية في محاولة شبه يائسة من اجل التكيف مع اطنابات ديمقراطية يصعب الاستسلام اليها بسهولة خاصة وان في المسألة تضحية عارمة بامتيازات مطولة هذه الصورة المأساوية تنقلها الينا مجموعة من المثقفين الجزائريين فهؤلاء الذين قدموا خدماتهم (كاملة) في ظل ديكتاتورية الحزب الواحد (حزب جبهة التحرير الوطني هاهم يبرهنون اليوم بأنهم قادرون على الخدمة افضل في ظل ديكتاتورية حزب الاغلبية (التجمع الوطني الديمقراطي) . حزب الرئيس قد تشكل خلال اقل من اربعة اشهر وهذه فترة زمنية طويلة انطلاقا من ان الرئيس ومهندسو قاعدته الحزبية قد كانوا على يقين بأنه سيجذب اليه كل من خاب امله او اعياه البحث (قبل) الديمقراطية ليجد الطريق امامه ممهدا (تحت رعايتها) فالسلطة لم تكن تهتم سوى بتجميع كل من هب ودب فتجمع لديها فعلا كل من هب ودب, وخاصة اؤلئك المثقفون الذين ضلوا طموحاتهم وهم في خدمة جبهة التحرير الوطني. جميع هؤلاء قد كانوا من (الملتزمين) بالثورية لا يفرطون فيها ولا يقايضون عليها بأي ثمن, بيد ان الثورية مع الوقت والظروف المستجدة لم تعد تشكل بالنسبة الى هؤلاء مصدر مكاسب او امتيازات فلا غرابة ان يتخلوا عنها (فجأة) تحت ستار الالتزام بالديمقراطية. جبهة الانقاذ قد اعيب عليها بأنها مهدت لسقوطها بنفسها اذا فتحت ابوابها لدخول (الكل) من غير فرز او اقصاء فكانت النتيجة التي آلت اليها ونعرفها جميعا رغم ان لهذه النتيجة اسبابها الاخرى خاصة وان مجموعة من هذا الكل كانت قد خرجت الى الشوارع تحيي انتصارها في انتخابات ديسمبر 1991 الا انها اشتطت في اساليبها فأوصلت الرعب والقلق على صدور وقلوب الناس فوجدها الجيش فرصة سانحة ليقلب هزيمة انصاره الى نصر الامر الذي فجر حمامات الدم. التجمع الوطني الديمقراطي هو في ذات الوضع المأساوي الا انه يعتمد على سند العسكر تماما مثلما كانت تفعل جبهة التحرير الوطني, وهذا بالاحرى ما ساعده على تطويع فلول احزاب المعارضة. احزاب المعارضة تعد في الجزائر اليوم ما لايقل عن سبعة وستين حزبا الا ان البرلمان لايضم منها اكثر من ستة احزاب فقط, وهذا يعتبر كافيا في نظر السلطة لادارة (لعبة) الديمقراطية بالطريقة التي تناسبها مبدئيا ان حزب الرئيس ومختلف احزاب المعارضة شاركت في السلطة ام كانت محظورة ليست الا مجرد (نزيف) لحزب جبهة التحرير الوطني, هي نفسها التي بدأته لسببين: السبب الاول قد تمثل بعدم قدرتها على مقاومة اغراءات المعونة المادية التي كانت تقدمها حكومات انذاك لاي جماعة تريد ان تؤسس حزبا سياسيا فإذا ما قلنا بأن هذا السبب قد تمثل بالبحث عن الثروة فإن السبب الثاني يجب ان يتمثل بالبحث عن المجد السياسي حتى عن طريق الحلم والاوهام والدليل على ذلك انها عندما خاضت اولى معاركها الانتخابية زلقت الى الحضيض مباشرة بدلا من الصعود الى القمة فلا غرابة ان تهرع الى حزب الرئيس فالكعكة هنا ادسم. المثقفون الذين صنعوا بطولات هذه الملحمة هم انفسهم الذين تحدث عنهم ماركس وصحيح ان بعضهم قد جرب مقاومة الاغراءات الا ان صمودهم لم يطل فسرعان ما (تبعوا) مجددين ولاءهم للسلطة القائمة وبالتزام اكثر ايضا خاصة وانه قد كان عليهم الاستفادة من تجربة (فاجعة) سابقة! هؤلاء المثقفون في اغلبيتهم قد استلموا مكافأتهم المنتظرة فاحتلوا في معظم الاحيان مناصب ما كانوا ليحلموا بها لو اختاروا البقاء بعيدا, مناصب دفعوا انفسهم ثمنا لها فلم يتردد في تزوير الحقائق لحساب اسيادهم واولياء نعمها الجدد. مأساة المثقف العربي في معركة التغيير التي تضرب مجتمعاتنا المعاصرة تكاد تكون واحدة ولان هذه المأساة كتبت بالدم في الجزائر فلا بد من ان تؤخذ كمعيار في محاولة منا لتشريح بعض النفسيات المريضة التي ان لم تهتز للتهديد والوعيد فإنها مهتزة حتما لاغراءات المنصب والسلطة اذن المقارنة مابين (الجنة والنار) فإن ظلم الحاجة هو الذي يدفع لاختيار الجنة حتما. في حديث مثقفينا المهووسين بالمنصب والسلطة او حتى اولئك الذين (خضعوا) للمساومة والتهديد اشارة الى ان انتخابات ديسمبر 1991 قد كانت مزيفة مع انهم ادرى من غيرهم بإنها قد كانت الانتخابات الاولى والاخيرة في تاريخ الجزائر المستقلة التي لم تعبث بها ايدي المزيفين من عملاء السلطة. انتخابات ديسمبر 1991 التي اقدم الجيش على الانقلاب عليها قد اشرف عليها (الحزب الواحد) لا حزب الرئيس وهنا لانقصد بانه قد كان حسن النية بقدر ما نقصد بأنه قد كان ساذجا الى درجة الغباء اذ ظن بأن الشعب الجزائري سيمنحه ثقته بعد طول عذاب ومعاناة ظن ان الشعب سيصوت له كالعادة او انه سيمنح ثقته هذه المرة ايضا وحقا من دون تزوير الا ان حساباتهم لم تطابق حسابات الشعب الذي ما كان ليصدق بأن صوته قد اصبح حرا مرة في الحياة لم تتكرر بعد ابدا. وفي حديث هؤلاء عن الديمقراطية يدعون ان البرلمان (المنتخب) او (المعين) الذي استولى عليه حزب الرئيس هو برلمان يعبر عن الديمقراطية وان الاحزاب التي تجلس فيه هي من اقصى اليمين الى اقصى اليسار. هذا صحيح لأول وهلة الا انه برلمان اشبه بمسرح للعرائس. كل من فيه مثل الدمى بدءا من حزب الرئيس وصولا الى الاحزاب المجهرية الاخرى حيث ان الجميع يكادون يجتمعون في ذات السلة بحثا عن المصلحة والربح الاسرع, فالكل يعمل في خدمة السلطة وعلى السلطة. ان ترضي من تشاء ومن لم يرض فما عليه الا كفاية نفسه من مكان آخر. مصير هذه الاحزاب السياسية الى الهاوية فهي ان اختارت مبدئيا التجرد من كرامتها فإن تجريدها من وطنيتها لن يكون بعيدا اذ ان الحساب الشعبي آت لامراء فيه حتى وان تأخر قليلا وهؤلاء هم على يقين بأن لحظة الحساب هي عاجلا ام اجلا الا انهم مع ذلك يفضلون ان يمنون انفسهم بما هو آتي وقتي متناسين انها لو دامت لغيرهم لما وصلت اليهم تلك سنة الحياة ولكن الذكي هو من يتعظ واذا لم يتعظ المثقفون فمن الذي هو اجدر بالموعظة اذن؟ كلية الشريعة والقانون ــ جامعة الامارات*

Email