خمسون عاما على النكبة... هل تغير المشروع الصهيوني (2) بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخاتمة التي انتهينا اليها في الاسبوع الماضي اشتملت على تساؤلات تعد في غاية الاهمية وهي مشروعة في الوقت نفسه. وهي في مجملها تتعلق بالمشروع الصهيوني واهدافه في الارض العربية. وتتعلق كذلك بالموقف من ذلك المشروع في ضوء معطيات التاريخ المعاصر للعلاقة بين المشروع العربي الاسلامي والمشروع الصهيوني . اشير الى ذلك واحسب ان هناك صلة وثيقة بين منطلقات واهداف المشروع الذي نتعامل معه, وبين الموقف الذي يجب ان نكون عليه عند التعامل مع الحالة الصهيونية لاسيما وان الخمسين عاما ــ هي عمر الدولة العبرية في ارض فلسطين ــ حافلة بالعديد من الشواهد على التزام تلك الدولة بنفس المنطلقات والاهداف التي حددها المشروع الصهيوني في مؤتمر بال قبل اكثر من مائة عام. وهي ذاتها المنبثقة عن الثقافة اليهودية التي جنحت الى العنصرية ومارست العدوان منذ امد بعيد. بسبب ذلك, تبدو هناك ثمة ضرورة لاستحضار ملف الممارسات الاسرائيلية عند الجلوس اليهم في شأن التسوية التي توجه اليها بعض العرب, ووجه اليها آخرون. اذ بغير ذلك, وبالغاء ما حفلت به الذاكرة العربية ووعته بما اشتمل عليه ذلك الملف, فلن يكون هناك سلام (حقيقي) , وأضع عدة خطوط تحت (حقيقي) , وذلك للتفريق بينه وبين السلام المعروض, الذي يتم التسويق له بشكل محموم. ولا ريب ان الاثار التي ترتبت على اغفال ما اشتمل عليه ذلك الملف, بالاضافة الى العملية التي استهدفت اغتيال الذاكرة العربية من الاسباب المباشرة لتعثر عملية (السلام) وتوقفها على النحو المشهود. والذي يقر به الجميع بمن فيهم المتحمسون لتلك العملية. وذلك بعد ان اصطدمت شعاراته بحقائق مريرة, هي معبرة عن صفة ذلك (السلام) . ويجدر ان نشير هنا الى حقائق ذات صلة بالموضوع وهي ــ بلا شك ــ مسؤولة عن الواقع المتردي الذي آل اليه الوضع في المنطقة. اهمها ان (مرجعية) مؤتمر مدريد عند المعتبرين بها, تركت تحديد قضايا اساسية منها مفهوم السلام الذي نريد, وما هي شروط تحقيقه؟ وكيف نحصل عليه؟ وما هي ضماناته؟ مؤتمر مدريد مرر المقولة الاسرائيلية (الارض مقابل السلام) ونجح الاسرائيليون في اقراره وقبول العرب به, وذلك بعد ان حولوه الى مبدأ. ولا يخفى ما في هذا الامر من خطورة كبيرة باعتبار ان هذه المقولة لا تتضمن الاشارة الى العرب على انهم قوم معتدى عليهم واصحاب حقوق مسلوبة في تلك الارض, كما انها اسقطت المسائل الهامة الاخرى, حيث فقد تعريف (الآخر) في هذا الشأن, وذلك بعد ان تساوت الاطراف الداخلة في تلك العملية. ثم تطور الامر الى ان ابتكرت اسرائيل شعارا آخر يقول (السلام في مقابل السلام) , وهذا الشعار وان كان ينسب الى الليكود, حزب نتانياهو, الا انه يمثل استراتيجية يتفق عليها غالبية اليهود, وتلتقي عليها الاحزاب الاسرائيلية الرئيسية. ولعل الذي يؤكد هذا الامر ان اسرائيل لم تتنازل في حقيقة الامر عن اي نسبة من اراضي فلسطين, بدليل انه ليس هناك سيادة حقيقية ممنوحة للفلسطينيين, فكل ما حدث هو تنازل عن بعض المسؤوليات الداخلية مثل شؤون البلديات ونحوها. هذه امور لم يعد تردادها قاصرا على المتحفظين على عملية التسوية. بدليل ان الذين وقعوا على تلك الاتفاقيات ما برحوا يؤكدون ذلك, فضلا عن قيادات اسرائيل بمن فيهم الذين ينسبون الى الاعتدال من امثال اسحاق رابين رئيس وزراء اسرائيل الاسبق الذي اكد في عام ,1993 وعقب توقيع اعلان المبادىء مع منظمة التحرير الفلسطينية, ان اسرائيل لم تتنازل عن شيء من الارض, ولكنها تنازلت عن شعب في الارض. اذا تبين هذا, فستدرك مدى فداحة الخطأ الذي يرتكبه بعض (شجعاننا) في سياق عقد الاتفاقيات مع الاسرائيليين, لأن الامر اخطر من مجرد عقد تلك الصفقة المجحفة اصلا, فهي بالاضافة الى افتقادها للاسس الطبيعية عند عقدها, فانها تضفي شرعية على المعتدي, وتصادر حق الاجيال المقبلة في البحث عن خيار آخر قد يكون الجيل الحالي عاجزا عن اللجوء اليه. وبالطبع لن يجدي الترويج والتسويق لصفقة التسوية بواسطة القاء الخطب الحماسية الحافلة بالشعارات الجذابة, من قبيل الحديث عن الدولة الفلسطينية المستقلة بعد عامين, حيث اعلن كبير (الخطباء) وامامهم ان هذه الدولة ستقوم عام ,2000 وستكون عاصمتها القدس, شاء من شاء وابى من ابى, والذي لا يعجبه يشرب من بحر الميت. لا يبعد هذا الشعار المضحك المبكي عن الشعارات التي كانت رائجة في بعض عقود هذا القرن, مع اختلاف في اسماء البحار, وفي هوية المعنيين بالتهديد. وهي ذات الشعارات التي انتجت النكبة والنكسة والكبوة... الخ. بقي ان نشير الى فارق مهم بين شعارات تلك الفترة وشعارات هذا الزمان, هو ان بعض تلك الشعارات كانت تلعب دورا هاما في حياة الشعوب العربية من حيث بث الوعي الفكري والقومي, وكانت الجماهير العربية مهيأة ــ الى حد كبير ــ للقيام بأي دور مطلوب تجاه القضايا التي تشكل تهديدا لكيانها وهويتها. ولعل الاستجابة السريعة والمثيرة لتلك الشعارات (على الرغم من غلبة عنصر المبالغة على الكثير منها) تعد مؤشرا على ذلك الوعي وفاعليته. وبحيث كانت تعتبر مجرد وجود كيان صهيوني مزروع في قلب الامة العربية شذوذا وخطرا لابد من اجتثاثه. اذا استحضر المرء ذلك, ادرك ان قدرا لا بأس به من التراجع قد حدث على الساحة العربية. وذلك في ضوء الانقلاب المثير في المصطلحات ومفاهيمها, فضلا عن تراجع مفهوم الامة كمشروع حضاري وخيار لا بديل عنه. وتتجلى الخطورة في هذا الوضع, انه في مقابل تراجع المشروع العربي نجد ان المشروع الصهيوني مازال ــ كما قدمنا ــ ملتزما بركائزه التي انطلق منها, متطلعا الى تحقيق اهدافه, وذلك وفقا للاولويات التي حددها هذا المشروع منذ انطلاقته. في هذا الشأن يقول خالد مشعل, ان اولويات المشروع الصهيوني واهدافه الاساسية لم تتغير, فالسيطرة الكاملة على الارض, وتهجير الشعب الفلسطيني ونفيه, وبناء الدولة الصهيونية, وتحقيق الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة ونهب ثرواتها وتمزيق كياناتها واثارة النعرات والتجزئات فيها, كل ذلك لم يتغير. حتى حلم الصهاينة في التوسع لاقامة اسرائيل الكبرى على مساحة واسعة ليس هناك ما يؤكد انه تغير, ومجرد اقامة اتفاقيات سلام, والحديث عن التطبيع والتعايش لا يعني تراجعا عن ذلك الحلم, خاصة في ضوء النتائج العملية المريرة لتلك الاتفاقيات ومشاريع التعايش. ويقول مشعل: الذي تغير في تقديري, او بالاصح تطور, هو الاساليب والتكتيكات والمناورات التي وصلت الى حد توقف الحديث عند الصهاينة عن التوسع العسكري لصالح الحديث عن التطبيع والتعايش والسلام. ولكن ذلك مرتبط بالوسائل والتكتيك وليس بالاهداف والاستراتيجية. ولاشك ان ذلك حدث عندما وجد المشروع الصهيوني نفسه امام مفاجأتين شكلتا عقبتين كبيرتين امام تقدمه. اولاهما صمود الشعب واصراره على التمسك بهويته وحقوقه والدفاع عنها, وقدرته على مواصلة المقاومة عقودا طويلة واقتراح اشكال عديدة من النضال. وثاني تلك الحقائق والمفاجآت, هي حالة النهوض الاسلامي الواسعة في الامة, وحضورها الجهادي الفاعل في مقاومة المشروع الصهيوني. وقد وجدت القيادة الصهيونية (خاصة حزب العمل) ان استمرارها في التعبير الصارخ عن مطامعها واهدافها الحقيقية يزيد من استقرار الشعب والامة, واستخراج مكنونات التحدي والمقاومة فيهما, ولذلك لجأت تلك القيادة الصهيونية الى اساليب التوائية مخادعة تتذرع بالمهادنة الشكلية والتعايش والسلام الكاذب مخفية خلف ذلك, الاهداف الحقيقية للمشروع الصهيوني. خلاصة القول في هذا الشأن انه يجب التأكيد على ان هناك فرقا بين ما يرفعه الاسرائيليون من شعارات تتعلق بالسلام والتطبيع, وبين ما تقوم به فعلا في الواقع. ولسنا بحاجة الى التذكير بممارساتها العدوانية في الارض المحتلة واينما امتدت يدها. ولا يستدعي الواقع كذلك, تأكيدا على ما تقوم به في شأن اغتصاب الارض الفلسطينية بدءا بالمصادرة وطرد السكان وانتهاء باقامة المستوطنات اليهودية عليها. ولاشك ان مسألة الاستيطان تعد من اخطر الاجراءات اليهودية في الارض الفلسطينية وتعد كذلك من ابرز الادلة على استمرار التزام اسرائيل المشروع الصهيوني. لذا كانت هذه المسألة من الامور التي يحرص على تحقيقها زعماء الدولة العبرية ومسؤولوها, بل ويعدونها من الانجازات العظيمة في خدمة تلك الدولة, بحيث تستحق رصدا وتنويها في سيرهم الذاتية. من ذلك التصريح الذي ادلى به مؤخرا الارهابي العريق ارييل شارون بشأن انجازاته في نصف قرن, والذي اعتبر فيه ان الاستيطان في الارض الفلسطينية يأتي مقدما في الاهمية على اسهاماته في الحروب العربية الاسرائيلية. وذلك على الرغم من مشاركته الفاعلة في تحقيق المكاسب العسكرية لاسرائىل في تلك الحروب. ولعل الجميع يذكر دوره الكبير في العدوان الاسرائيلي على لبنان وغزوها له في عام 1982.

Email