أبجديات: بقلم - عائشة إبراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يصر على انني احببت الألم, وأصر على اننا جميعا أدمنا الوجع! ربما لأنه ــ كما يقول البعض ــ اكثر المشاعر انتشارا وشعبية في تراثنا, وربما لأنه اصدق المشاعر التي لا يستطيع ان يكابرها الانسان او يتعمدها او يتجاهلها. اعتقد بأن الالم صار هوية موحدة لكل البشر, وانظر الى حياتك, وحياة من يجاورك, وحياة سكان الكوكب كله, ترى بأن الوجع فعلا هو الفعل الاكثر سيطرة وانتشارا . الالم الانساني هو الاعلان الرسمي لولوجنا بوابة الحياة, فنحن جميعا ولدنا صارخين لا ضاحكين, ويتأجل الفرح دائما في حياتنا, وحين نريده فلابد ان نستدعيه بمناسبات رسمية, وبطاقات دعوة, كل البشر توجعوا بدون استثناء, لكن هناك الملايين ممن لم يفرحوا حتى هذه اللحظة, رغم انقضاء السنين, وعبور القرن العشرين عبر بوابة القرون بات وشيكا. لا اكرس الوجع, ولا اشرعنه, ولا احبه, ولكنني اجسر الهوة بينه وبين الفرح ــ اذا رضي الفرح ذلك ــ فالفرح هو الوجه الآخر للألم, ولكنه الوجه الاكثر اناقة وتهذيبا, وارستقراطية, ومشكلتنا معه, انه لا يجيد المرور على كل الابواب, واذا مر فلا صبر له على الانتظار, واذا انتظر فهو لا ينتظر الجميع, وكأنه من بقايا عصر الاقطاع. لا اقول بأن الوجع عليك هو المكتوب يا ولدي, ولكن المشكلة ان الوجع كموسم الصيف في بلادنا طويل وسقيم, وسريع الهجوم, اما الفرح فهو كربيع بلادنا ــ ايضا ــ خاطفا كرفة فراشة, وسريعا كضياء الافق. ولذلك فهو جميل, ولذلك فنحن نحبه ونشتاقه, ونتمناه. قدر الجمال ان يكون نادرا, وقدرنا ان نتهاوى امام الاغراء النادر. أرأيت شخصا اذا تلبسه الحزن أو النكد, احتج او استعاذ بالله, نحن ــ ربما ــ الشعوب الوحيدة, التي اذا ضجت جلساتنا بالفرح, وانتفضت حبات القلب فينا من نشوة السعادة, ودمعت العين ضحكا, انتفض فينا شيء كان غافيا, شيء من تراث السنين, او من غبار القرون التي اعقبت اختراع الوجع, فتحركت ألسنتنا اللهم اجعله خيرا... وكأن الضحك الذي نمارسه كفضيلة انسانية لخلاص ارواحنا من عبثية الاحزان والتعاسة صار الخطيئة او الاثم الذي لابد ان نتعوذ من شره. يمر بك صديق ودود, في صباحات حلوة من ايام العمر, تومض عيناه بكبرياء الحياة, ويقين ممارستها بتحضر, وتعلم بأنه يجتهد وينشط في حياته, وعمله وعلاقاته بحب وسعادة, فاذا بكائنات مبثوثة بيننا, تخربش على حوائط الدنيا كلها بطفولة فاسدة, تفسد عليه يومه, وتزرع مسارات خطوه وانفاسه بالقلق. فاذا قال لك كعادته: صباح السكر, عرفت بأن السكر قد غادر صباحه قبل ان يأتيك... تعرف ذلك بمجرد ان تطل على حواف عينيه. للأسف, صار هناك من يصادر السكر من نهارات الطيبين والطيبات, ويستنبت شيئا آخر لا يمت للسكر لونا وطعما, في دقائق الاوقات كلها, وكم يستطيب ما يزرع! لكنه لا شك يعلم انه انما يحرث في البحر والهواء. ان نهار الطيبين يعاود التقاط الرحيق من عيون الاحباب, كما يلتقط العصفور اعواد العش من كل الخبايا والاماكن الصغيرة. الفرح كائن صغير, رقيق, لا يحتمل كلمة عاتية, يغادرنا لمجرد اطلالة بعض الوجوه الكالحة, ولمجرد سقوط بعض الاصوات السيئة على صفحات الهواء. اما الوجع فهو ثقيل وطويل, لا يستطيع الطيران ابدا, ولا يعرف طرق الهجرة, لذلك يسكن كل النفوس والاماكن, مأساة البعض انه اعطى الوجع ترخيصا رسميا بسكناه, حتى صار هويته, مع ذلك اكرر... لا شيء ابدع واروع من الفرح.

Email