حاملة طائرات منقسمة على نفسها! بقلم ـ محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كتابه الهام بعنوان (استراتيجية الاستعمار والتحرير) وصف العلامة الراحل جمال حمدان اسرائيل بأنها في التحليل الأخير عبارة عن (حاملة طائرات برية) وضعتها الامبريالية الدولية ــ الامريكية بالذات على السواحل الشمالية ــ الغربية للوطن العربي التي تطل على البحر المتوسط, وربما توصل جمال حمدان ــ رحمه الله ــ الى هذا الوصف من واقع رؤيته الشاملة لاسرائيل المشروع والمجتمع والاهداف والسلوكيات وقد لخصها بدوره في عبارة تقول: (ان اسرائيل هي مجتمع معسكر) . ورغم الاعلانات الملونة والدعايات السياحية المزوقة التي تصور اسرائيل, اليوم وكأنها واحة وارفة من الخضرة أو الظلال او من دفء التواصل مع الناس, فلسوف يظل توصيف جمال حمدان للكيان الصهيوني العنصري المسلح أو المعسكر لاسرائيل وصفاً دقيقاً وبليغاً حتى بعد انقضاء خمسين عاما على انشاء اسرائيل. حكاية جيل الصابرا لقد شهدت السنوات الخمسون السابقة نمو جيل (الصابرا) الذي ظل محور النشاط ومصدر القوة وخاصة في جيش الدفاع الاسرائيلي, وقد نحتوا تسميته ــ كما هو بديهي ــ من مادة الصبر بمعنى الخشونة والمرارة وطول التحمل ومقاومة الانواء على نحو ما يعرفه تراث اللغات السامية, الا ان هذا الجيل وقد اكتهل في العمر وفي مرارة التجارب ايضاً بدأ يعيد شريط حياته عبر نصف القرن ليتأمل وقائعه من جديد. واذا كان المفكر جمال حمدان قد احال الى عوامل وتفاعلات الصراع التاريخي بين نزعتي الاستعمار والتحرير ومن ثم ضرورات المواجهة المسلحة بوصفها اسباباً لنشوء اسرائيل, فها هو جيل الصابرا يعبر عن هواجسه حين يقول قائله: ان اسرائيل قامت او اقيمت نتيجة (لعنة) تاريخية في المقام الاول. هكذا يعبر بالضبط الكاتب الاسرائيلي ديفيد غروسمان في دراسة (تأملية) كتبها بالعبرية واطلعنا عليها بالانجليزية وقد نشرتها مجلة (ذي نيويوركر) لها في احدث اعدادها (20 ابريل 1998) تحت عنوان (رسالة الى اسرائيل .. وكيف يعتريها التغيير بطرق لا سبيل الى قبولها) . نعم .. لقد نشأت اسرائيل بسبب لعنة التاريخ وقد كانت لعنة جسيمة كما يقول (غروسمان) اذ لحقت بقوم ــ اليهود ــ كانوا (مرفوضين ومختلفين (عن سواهم) ومحكوم عليهم بان يكونوا دوما ومستبعدين ومهمشين وملعونين ايضاً) , ومن عجب يضيف الكاتب الاسرائيلي الذي يقارب عمره عمر الكيان الصهيوني ذاته, ان هذه الاهانة التاريخية ظلت مزروعة او مغروسة في الذاكرة الجمعية في اسرائيل حتى اليوم وهي مزروعة او مغروسة على شكل احساس عميق وهاجس مزمن بمذلة تثير الاشفاق وبجروحات وندوب لا تلتئم في يوم من الأيام.. وكيف لها ان تفعل وهناك من يمعن فيها توظيفا واستغلالاً لدرجة يقول معها غروسمان على سبيل اعتراف نراه موضوعياً او حتى أميناً مع النفس, ان الطفل الاسرائيلي اذا لم يولد بحكم النشأة البيتية الأولى بهذه الشروخ المؤلمة او الموجعة في جدار الذاكرة, فإن النظام التعليمي في اسرائيل لا يلبث يتكفل عامدا متعمداً بزرع هذه الشروخ بل وحفرها عميقة ومتأصلة في النفسية الاسرائيلية تأمل مثلاً روزنامة الايام والعطلات والمناسبات التي تحتفل بها اسرائيل هناك عطلة الخلاص من طغيان الاغريق الذين كانوا يزمعون تدمير اليهود, وعطلة الخلاص من بطش المصريين بالخروج من مصر عبر البحر الاحمر, وعطلة ثالثة للاحتفال من الخلاص من مصير الدمار والسحق في بلاد فارس ومناسبة أخرى يعلنون فيها الصوم في ذكرى دمار الهيكل والاسر البابلي على يد نبوخذ نصر الذي ساقهم ــ كما يقول تاريخهم ــ غرباً الى ارض العراق, دع عنك عيد الاعياد وقمة المناسبات حيث (الاحتفال) بالهولوكوست او محرقة النازي ومعسكرات الاعتقال التي تعرضوا لمحنتها, ولم يكونوا وحدهم بحال من الاحوال, حيث الهولوكوست هي بمثابة سبوبة الارتزاق والابتزاز وطلب التعويضات وارهاب المفكرين والمجتهدين او هي .. (اللعبة الكبيرة الكسبانة) باستمرار كما يقول المصريون. حل المشكلة اليهودية اللهم صدقنا وسلمنا بان اليهود كبشر تعرضوا للاضطهاد او انهم تعرضوا لنظرة القولبة او التنميط (ستريوتايب) حيث لا تفرق مثل هذه النظرة النمطية الجائرة والمنطبعة بين الطالح والصالح وحيث الكل يهود مستغلون متآمرون مخاتلون ومصاصو دماء. واللهم صدقنا وسلمنا بأن أوروبا كانت تعاني مما كان يعرف تاريخياً باسم (المشكلة اليهودية) وتمارس في اطار هذه المشكلة كل ما اشار اليه صاحبنا الاسرائيلي (غروسمان) من ضروب الاضطهاد والاستبعاد والتهميش بحق الجماعات اليهودية التي عاشت بين ظهرانيها. لكن علينا ان نسلم في الوقت نفسه بأن اوروبا ــ لا حياها الله ــ عمدت الى حل مشكلتها اليهودية باخراج اليهود من اقطارها عبر طريق قومية وطويلة وخبيثة ايضاً بدأت من محارق الاضطهاد واستوت مع سلوكيات البغض الاوروبي لليهود بوصفهم يهودا (اللاسامية كما عرفوها) ووصلت الى مشارفها بتسهيل الهجرات اليهودية الكثيفة التي بلغت نهايتها بالقائهم ــ تآمرا واغتصاباً وخديعة ومساندة ــ على السواحل الشرقية للبحر المتوسط.. وقد عمدنا الى استخدام تعبير (إلقاء) لانه ينطوي على فعل التخلص من المشكلة ويكاد يرادفه في الانجليزية مثلاً تعبير (دمبنج) الذي اصبح في ايامنا يصدق على القاء النفايات الخطرة, السمية او المشعة سواء في البحر او في الصحراء وهو ما برحت تقدم عليه اوروبا وامريكا بشرط ان يكون البحر بعيدا عن شواطئهم وان تكون الصحارى نائية قصية عن أقاليمهم ولعل الفرق الوحيد انهم عمدوا منذ خمسين عاماً الى (القاء) قنابل بشرية موقوتة تخلصوا منها في ربوع أوروبا وقد اثخنتها جراحات الحرب العالمية الثانية وجاء القاؤها فوق ارض عربية وكان ان تفجرت في وجوه اهلها ومازالت شظاياها تتطاير باشكال شتى هنا او هناك. النار والهشيم مع ذلك فالهشيم المشتعل يأكل بعضه وهم لم يلقوا بالقنبلة الصهيونية الاسرائيلية في ارض يباب, لقد فقدت اسرائيل عبر نصف القرن من عمرها اكثر من 20 الف انسان في حروبها ومصادماتها مع العرب وهو ما يعادل, كما يضيف ديفيد غروسمان في رسالته التي ألمحنا اليها مقتل اسرائيلي واحد في المتوسط مع مطلع كل صباح. وهتك 900 شاهد او نصب تذكاري لضحايا الحروب العربية ــ الاسرائيلية بمعنى أن هناك نصبا تذكاريا واحدا لكل 22 جندي صهيوني هلك في غمار تلك المواجهات العسكرية مع العرب (النسبة المعادلة في اوروبا رغم كل حروبها الضروس هي نصب تذكاري واحد لكل عشرة آلاف جندي قضى نحبه في تلك الحروب) ليس صدفة اذن ان يشيع ذلك الوصف الذي اطلقوه على اسرائيل بانها: البقعة التي تكون الحياة فيها مليئة بالموت. وليس صدفة كذلك ان يصف غروسمان اسرائيل التي عاش فيها طيلة اعوامه التي شارفت الخمسين فيقول: ــ ان المزاج العام الذي يلف البلاد يستدعي الى الذاكرة صورة عائلة تعيش في أزمة بل وتعاني من مرض عضال.. محاولات تشخيص العلة ثم يحاول غروسمان تشخيص اسباب هذه الأزمة او المرض الخطير قائلا: ربما لان العنف (الذي نشأت عليه اسرائيل) بدأ يغزو انسجتها الداخلية لدرجة أنه بات يحول الاخ الشقيق الى عدو لدود (نص عباراته).. وربما لان الذين شهدوا او عاشوا معجزة قيام اسرائيل ما لبثوا ان ادركوا انهم امام واقع بشري حافل ــ فهل هي حقيقة بشرية ــ بالتناقضات والسلبيات. نحن اذن بازاء نوع خبيث وغريب من السرطان النفسي او المعنوي بات يغزو على حد تعبير غروسمان الانسجة الداخلية في الكيان الصهيوني. ولعل هذا يفسر نزعة العداء ازاء الجميع التي حاولوا زرعها في ذلك النسيج او التكوين النفسي في اسرائيل وهو ما تعبر عنه اغنية شعبية ذاعت على السنة الاسرائيليين تقول: الدنيا كلها ضدنا.. وفي هذا السياق بالذات يضيف غروسمان قائلا: نعم.. هناك شعور سائد بأن العالم كله ضد اسرائيل وساكنيها: الصحافة العالمية ضدنا.. اوروبا وامريكا ضدنا والا فكيف (تجرؤ) اوروبا او امريكا على ان تملي علينا مبادرات سلام.. والدول العربية ضدنا والفلسطينيون ضدنا (العفو!)... احيانا يخيل الى المرء انه ليس في العالم بقعة تضمر عداء وخصومة ليهودي اكثر من اسرائيل. من هنا فان اسرائيل باتت بمثابة بيت منقسم على نفسه كما يقول العهد الجديد وتلك نتيجة نراها منطقيه لاطار حاول ان يجمع اخلاطا من خلق الله, ينتمون الى شعوب وقوميات شتى في المشارق والمغارب ويصدرون من ثم عن ثقافات وأنساق حضارية مختلفة اشد الاختلاف, ثم سعى الى ان يجمعهم حول مشروع قائم في الاساس على (نفي الآخر) وعلى (تخليق) كيان ومؤسسات تستند الى اعلان الحرب مادية ونفسية وسلوكية على الجميع. مظاهر واسباب الانقسام هكذا ينقل ديفيد غروسمان صورة البيت الصهيوني المنقسم على نفسه: .. ما بين مهاجري الاتحاد السوفييتي السابق الذين باتوا يشكلون خمس (بضم الخاء) سكان اسرائيل دون ان يندمجوا في مسارهم الديمقراطي العام, بل هم يعيشون في جيوب شبه معزولة نهبا لمزيج من مشاعر خيبة الامل ومرارة العزلة والاستعلاء بحكم مؤهلاتهم العلمية والتكنولوجية الرفيعة على افراد هذا المسار العام... وما بين التوجس وانعدام الثقة بين يهود السافارديم, المشرقيين ويهود الاشكناز الذين جاؤوا من الغرب وهو دفع في التحليل الاخير من الصدام الظاهر او الباطن بين ثقافة شرقية ذات جذور عربية ــ اسلامية (بالمعنى الحضاري والمجتمعي) وبين ثقافات اوروبية او غربية وافدة جاء اصحابها لكي يستأثروا بمعظم المناصب الحساسة والمواقع السياسية الحاكمة والمتحكمة في صنع القرار. .. هناك ايضا جيتو ــ او معازل من نوع جديد يعيش فيها نحو 100 الف عامل اجنبي في اسرائيل, ومعازل اخرى اقتصادية وسيكلوجية يعيش فيها 200 الف اسرائيلي عاطلين عن العمل ويشعرون ــ كما يؤكد غروسمان ــ بان (الدولة) ترفضهم بل وانها خانتهم.. وهناك اكثر من مليون عربي داخل الكيان الاسرائيلي منذ 1948 ويشكلون بدورهم واحدا الى خمسة من مجموع سكان اسرائيل وهم بطبيعة الحال لا يتوحدون مع أهدافها ولن يندمجوا ــ رغم كل شيء ــ داخل كيانها وهم يدركون من خلال سلوكياتهم وابداعاتهم الفكرية والفنية انهم ينتمون في المقام الاول الى أمة عربية وحضارة عربية وثقافة عربية هي السائدة بالمنطقة عبر مئات السنين. .. وهناك أزمة المزارع والقرى الجماعية الكيبوتسات والموشاف وقد كانت الادارة التي لجأ إليها المهاجرون الاوائل والبناة للكيان الاسرائيلي من اجل الربط بين المهاجر الصهيوني وبين الارض وكانت كما يقول ديفيد غروسمان, اوضح رمز لعودة اليهودي الى أرضه وتربته (أو هكذا تقول الاسطورة التوراتيه المعتمدة رسميا داخل اسرائيل. وفي هذا السياق بدوره يحدثنا استاذنا الراحل احمد بهاء الدين (في كتابه اسرائيليات) عن احدى شخصيات رواية طوبى للخائفين التي كتبتها (يائيل) ابنة الجنرال موشيه دايان والشخصية هو ايفري المهاجر اليهودي من روسيا اراد يوما ان يعلم طفله الصغير أصول الحياة الجديدة في اسرائيل فقال: ــ ايام زمان, حين كنا يهودا في روسيا وغيرها.. كان من الضروري بالنسبة لنا ان نطيع التعليمات اما الآن فقد اصبح لدينا شيء أهم وهو.. الأرض.. لقد غيرت اسمي حيث جئت الى هنا بعد أن تركت هناك ملابسي وأمتعتي واقاربي.. لقد عثرت هنا على (رب) جديد وهو خصب الارض وزهر البرتقال.. ثم تواصل يائيل دايان روايتها فتقول: واخذ (ايفري) حفنة من تراب الارض وسكبها في كف الصبي وقال له: ــ امسك هذا التراب.. اقبض عليه.. تحسسه.. تذوقه.. هذا هو.. ربك الوحيد! وهنا يعلق احمد بهاء الدين رحمة الله عليه قائلا: وليس هناك اقوى من هذا المشهد ليدل على ان الصهيونية حركة سياسية لا دينية. ويزيد من انقسام البيت الاسرائيلي على نفسه, حقيقة الانقسامات الطائفية بين فصائل وعقائد اليهود ذاتهم بين متطرفين يستمدون ارهابهم من التلمود, وبين أصوليين يرفضون أصلا قيام اسرائيل وهم يعيشون بداخلها بين يمين متعصب ويسار ــ صهيوني حتى لا ننسى ــ يدعو لاتباع منطق الملاءمة أو المواءمة بما يراعي أوضاع العالم العربي وحقائق الخريطة العالمية وصلابة الإرادة الوطنية الفلسطينية. اسرائيل ليست يوتوبيا ثم يعود إلى ديفيد غروسمان (الذي يؤكد ان المزارع الجماعية التي كانت تكرس فكرة العلاقة بين اليهود والأرض أصبحت في حالة يرثى لها من حيث الاهمال والذبول, ولذلك يحدث بالنسبة للجيش الذي كله يشكل محور الحياة في اسرائيل ــ حاملة الطائرات البرية أو مع مجتمع المعسكر ــ وها هم شباب في اسرائيل وقد بدأوا ــ في رأي غروسمان يتخلون عن فكرة ان الخدعة في الجيش هي جواز المرور إلى الترقي في الحياة المدنية. ليس معنى هذا كله ان الكاتب ديفيد غروسمان يرفض فكرة اسرائيل أو يرفض الحياة فيها.. والحاصل اننا بازاء كاتب يفكر بمنطلق مراجعة النفس والوقائع والتاريخ.. وعلينا أن نقف متأملين بدورنا عما يعبر عنه غروسمان وأحزابه من أفكار وطروحات منها مثلا. اسرائيل ليست يوتوبيا أو مجتمعا مثاليا وتعني المكان الوحيد التي يمكن أن يأوى إلىه اليهودي.. اننا نجحنا في زراعة الصحراء وتطوير العلم واستخدام التكنولوجيا ولكن لم ننجح ــ كاسرائيليين في الاجابة عن السؤال الأخطر الكامن بين جوانحنا وهو: ـ إلى متى نظل أسرى للمخاوف التي تناوشنا أو كما يعبر غروسمان نفسه متسائلا: ــ هل يأتي اليوم الذي يذهب فيه ابني إلى الجيش (وهو بعد عامين ليس الا) كي يحارب ضد أبناء أصدقائي الفلسطينيين في شوارع الخليل؟! أو يقول: ــ هل نسينا ان القوة, مجرد امتلاك القوة ليس هدفا في حد ذاتها بل هو وسيلة لحماية الحياة؟ وان الحياة ليس معناه حماية الحدود, وهو ما نجحنا فيه حتى الآن, بل هي نجاحنا في تغيير أنفسنا (ومواقفنا) من الداخل وفي الصميم. والكاتب الاسرائيلي معه الحق في تساؤلاته, فبغير هذا كله تتحول اسرائيل إلى قوة خارج التاريخ.. أو يصبح الاسرائيليون بتعبير ديفيد غروسمان نفسه, مثل حلل الدروع التي كان يرتديها فرسان العصور الوسطى ولكن بعد أن مضى عليها الزمن.. فأصبحت دروعا منصوبة ولكنها خالية في داخلها من الفرسان. ے

Email