نجيب محفوظ وأبوالعينين: بقلم- محمود السعدني

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيدنا وعمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ, سيد كتاب الرواية في كل ارجاء الارض, شرفني وطوق عنقي بتصريحه الرائع الذي سيكون شفيعي يوم القيامة وجواز سفري إلى جنة رضوان بإذن الله, قال عمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ لمجلة (اخبار الادب) التي تصدر عن دار (اخبار اليوم) ويرأس تحريرها الاستاذ جمال الغيطاني (لقد انزعجت جدا عندما قرأت خبرا يقول بمثول الاديب محمود السعدني امام النيابة للتحقيق معه بعد ان قدم محافظ الجيزة بلاغا ضده, وقال انه يحترم الاجراءات القضائية ويجلها, وفي الوقت نفسه يعرب عن شعوره العميق بالاسى لمثول كاتب كبير متميز مثل محمود السعدني امام النيابة, وقال ان السعدني كاتب ساخر والسخرية لها مساحة من الحركة اوسع واشمل, وقال إنه يجدد احترامه للسعدني ومحبته العميقة له ككاتب وانسان) شكرا عمنا الكبير نجيب محفوظ, تكفيني كلماتك عن جائزة الدولة التقديرية التي ذهبت إلى من لا يستحقها اكثر من مرة, وهي خير تعويض للعبد لله عن سنوات السجن التي ولت, وعن سنوات السجن التي في ضمير الغيب, كلمات عمنا نجيب محفوظ هي صفعة على وجه كل موظف مغرور, وكل مستخدم منتفخ الاوداج, والغريب ان رئيس الجمهورية اكثر تواضعا من بعض القيادات الوسيطة, ورئيس الوزراء يتعامل مع الناس كفرد من افراد الشعب, اذكر ان احد كبار صغار الموظفين تأخر عن حضور اجتماع لبعض القيادات الشعبية, وبالرغم من ان السيد اياه هو الذي دعا للاجتماع الا انه حضر متأخرا لمدة ساعتين, وحدثت مشادة بينه وبين بعض النواب, وهمست في اذنه بأن من اهم واجباته احترام الناس, فقال في استعلاء عبيط, انا ربنا ولاني ولا اخشى احدا الا الله, ولحظتها ادركت الوكسة التي ستحل به عندما اكتشفت انه ليس موظفا ولكنه (متولي) وهي وظيفة اختفت منذ سقوط دولة المماليك, وكان المتولي في عهد السلطان برقوق هو الذي يوجه الاتهام, وهو الذي يقوم بالتحقيق, وهو الذي يباشر نظر القضية, ثم يقوم بعد ذلك باصدار الاحكام, ثم يتولى تنفيذها بنفسه. ولكن.. طالما ان الامة يوجد فيها امثال عمنا نجيب محفوظ, فلا خوف من سيطرة وغطرسة السادة المستوظفين من طبقة المتولي. واذا كانت كلمات عمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ قد احدثت فينا الاثر نفسه الذي تحدثه زجاجة مياه باردة في يوم صيف قائظ, وبقدر ما اسعدتنا كلمات نجيب محفوظ فقد تألمنا كثيرا لرحيل الفنان العظيم والصديق الكريم عبدالغني ابوالعينين, احد اضلاع المثلث الذهبي حسن فؤاد وجمال كامل وابوالعينين, الثلاثة العظماء من ابناء جيلي ذهبوا إلى رحاب الله, ولكن الذي يعزينا عن فقدهم ان الزمان مضى بهم ولكنه لم يمض عليهم! فالاثر الذي تركوه في نفوس الاصدقاء والمعارف اشبه بأخدود شق بطن الارض وليس له التئام, بدأت صلة العبدلله بالفنان أبوالعينين في فترة الخمسينات, وبالتحديد في بداياتها, كنت اعمل محررا في مجلة اسبوعية باهتة, وكنت امدها بالاخبار والتحقيقات, وفي الوقت نفسه كنت اعمل في (روزاليوسف) بالقطعة, وخلال زياراتي المتقطعة لروزاليوسف كنت اختلس بعض الوقت للحديث مع جمال كامل, واحيانا يحضر ابوالعينين وينضم لجلستنا, ولكنه لم يكن يجلس طويلا, كان مشغولا جدا, ويذهب ويجيء كالمكوك من مكتب احسان إلى مكتب جمال كامل إلى صالة التحرير التي تضم جميع المحررين, كانت مسؤوليته اكبر من سنه, وكان يعاني صراعا شديدا بين مهنته وفنه, كانت الصحافة مهنته والرسم فنه, وكان اجتهاده في فنه يرشحه لمكان في الصدارة, ولكنه كان يعشق مهنته إلى حد الجنون, وكان على استعداد لكي يمنحها ليس وقته فقط ولكن حياته ايضا, ولذلك كانت صدمته شديدة عندما تلقى خطابا من الدار الصحفية التي يعمل بها في اليوم نفسه الذي بلغ فيه الستين تبلغه فيه شكرها العميق على تعاونه المثمر خلال الفترة السابقة, وتعتذر له عن عدم استطاعتها تجديد عقده, مع ان القانون كان يسمح بذلك, ولكن اذا كانت الدار الصحفية قد استغنت عن خدماته فقد احتضنته مجالات اخرى ابدع فيها واجاد وحلق بفنونها إلى آفاق عالية, عاد ابوالعينين إلى المسرح الشعبي وفرق الرقص الشعبية, إلى عالم الابهار بالملابس والالوان, ولكنه ظل يحلم بدار صحفية تهتم بالفن اكثر من اهتمامها بالاحاديث والمقالات, وفي سنواته الاخيرة اهتم كثيرا بفن الموسيقى والغناء, وكان لا يكف عن توصية اصدقائه بالشباب الصاعد من المطربين والمطربات, وكان يرى ان اصوات الاستنكار التي تتصاعد ضدهم من هنا وهناك, تشبه اصوات الاستنكار التي تصاعدت ذات يوم ضد ظاهرة عبدالحليم حافظ من جانب سميعة صالح عبدالحي وعشاق منيرة المهدية وابناء جيلها من المطربين والمطربات, ثم فجأة اعتكف الفنان ابوالعينين ولزم داره, كان قد تجاوز السبعين وان كانت حقيقته لا تدل على انه تجاوز الستين, ثم فجأة سقط عمنا الفنان ابوالعينين فريسة المرض الخبيث, ولكنه واجهه بشجاعة نادرة, وبعزيمة من حديد, وظل الصراع بينهما يشتد حينا ويهدأ حينا, وعندما جاء الوقت اغمض ابوالعينين عينيه ورحل من دنيانا ليلتحق بزميليه جمال كامل وحسن فؤاد, وداعا عمنا الفنان الكبير ابوالعينين, لم تجد الوقت ولا الفرصة لكي تبروز فنك, حالة ينطبق عليها مقولة عبدالرحمن الخميس, الشهيرة: انا لا اجد الوقت لكي اعزف على فيثارتي, لانني مشغول طول الوقت بالدفاع عنها, كل أبناء جيلي واجهوا هذه المحنة وعانوا منها, وبالرغم من مواهبهم الفذة الا ان طريقهم لم يكن سهلا والهواء حولهم لم يكن نقيا, بعضهم غاب خلف جدران السجون, والبعض الاخر غاب خلف جدران اليأس والاحباط, وبالرغم من ذلك, واصل الجميع التقدم وتمكن بعضهم من تحقيق بعض الاهداف, مسكين جيل العبدلله المطحون, بدأ افراده يختفون واحدا وراء الاخر, ابرزهم كانوا السابقين, يوسف ادريس, صلاح حافظ, صلاح عبدالصو,ر صلاح جاهين, حسن فؤاد, جمال كامل, عبدالحليم حافظ, بليغ حمدي, محمد الموجي, واخيرا عبدالغني ابوالعينين, عزاؤنا الوحيد في فقد ابوالعينين, ان تلاميذه الذين يحملون رسالته منتشرون الان في كل مكان, واملنا الان ان يبرز من بينهم ابوالعينين اخر يواصل مسيرته ويكمل رسالته دون عقبات أو احباطات, اذكر انني بعد الافراج عني من سجن الواحات الخارجة وفي اثناء سهرة طويلة مع ابوالعينين حكيت له تفاصيل وقائع ما جرى للعبدلله خلال فترة السجن, وفوجئت بالفنان ابوالعينين يقول لي: انت محظوظ, ودققت النظر طويلا في عينيه, ولكنه واصل حديثه قائلا: حظك اطيب مائة مرة من حظ استاذك كامل الشناوي, لانك عانيت في شبابك بينما عانى عمنا كامل الشناوي في كهولته وفي شيخوخته, وما يصيبك في شبابك يدفعك إلى الامام, وما يصيبك في شيخوختك يكسر ظهرك ويكسر نفسك ويجعلك اشبه بطير ضعيف مقصوص الجناح, ومن حسن حظ ابوالعينين انه لم يذق طعم الحبس في شبابه او شيخوخته, ولكنه عانى ما هو اخطر من الحبس خلف الاسوار, لقد عانى من الاحباط ومن الاكتتاب, وكان يقضي عدة اسابيع حبيس حجرة نومه ساهما محدقا في سقف الحجرة كأنه ينتظر معجزة تهبط عليه من السماء, التقيته مرة في اثناء نوبة من نوبات الاكتئاب التي كانت تصيبه بين الحين والاخر, وصرخت في وجهه بعبارة الفنان حسن فؤاد المشهورة, انت هاتناملي واللاايه؟ وضحك ابوالعينين رغم مرضه وقال للعبدلله: دا حسن فؤاد ده كان متخلف, وعبارة انت هاتناملي دي اصبحت موضة قديمة, العبارة المناسبة الان: انت نمت لي خلاص, لان النوم ادركنا الان بالفعل وشخيرنا يتصاعد حولنا إلى الفضاء, ولكن عبارة حسن فؤاد كانت متفائلة, انت هاتناملي, و(ها) تعني ان النوم سيصيبنا في مستقبل الايام, وهي حالة تختلف عن الحالة التي نحن فيها الان. وداعا عمنا ابوالعينين, واخيرا حررك الموت من الاحباط والاكتئاب, والموت يكون احيانا راحة لنا من كل شر.

Email