القرار 425 والعرض الإسرائيلي: بقلم- رياض ابو ملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

اي تقديم جدي وموضوعي للعرض الاسرائيلي بالانسحاب من جنوب لبنان لا يمكن ان يتم في معزل عن مواقف رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو وقناعاته الايديولوجية وسياساته العامة ونظرته الى التسوية السلمية مع الدول العربية واسلوبه في خلق الوقائع التي تنسجم مع افكاره وحساباته, بصرف النظر عن المبادىء التي تحكم العملية السلمية او الاتفاقات الموقعة. اي ان الحذر والشك لابد ان يكونا ملازمين لأية قراءة تتصل بالاقتراحات الاسرائيلية, وهناك عشرات الأدلة العينية والمبررات المنطقية التي تحمل على ذلك. اول ما ينبغي تسجيله في هذا المجال ان نتانياهو استطاع نسف أحد ابرز الأسس التي تستند اليها التسوية السلمية وهو (الارض مقابل السلام) ليحل محله مبدأ آخر هو (السلام مقابل الأمن) , و(الأمن) كما تحاول الحكومة الليكودية تعريفه لا يقتصر على الشؤون العسكرية بل يشمل امورا عديدة اخرى, منها الاحتفاظ بمواقع على الارض (يسهل الدفاع عنها) , والسيطرة على مصادر المياه, وخلق معطيات حتى داخل حدود الاطراف الاخرى لتوفير ضمانات اضافية تمنع اي تهديد مستقبلي محتمل لأمن الدولة العبرية واستقرارها, وفقا للمفهوم الاسرائيلي.. الخ.. ومن الواضح ان هذه التحويلات والاجتهادات, التي يظهر جديد منها في كل يوم, هي التي أدت الى تعطيل العملية السلمية على كل المسارات. واذا كان لبنان يعتبر معنيا بالقاعدة العامة للتسوية السلمية, وهي (الارض مقابل السلام) , لكن وسيلة التنفيذ تبقى مهجورة في نص قرار مجلس الامن رقم 425 الصادر قبل عشرين سنة, والذي قررت الحكومة الاسرائيلية اخيرا الموافقة عليه. هناك جانبان للخطوة الاسرائيلية الحالية في اتجاه لبنان: الاول هو المتعلق بالقرار 425 نفسه, والثاني هو المتعلق بخلفية القرار الاسرائيلي وما ينطوي عليه من ابعاد سياسية, تكتيكية واستراتيجية في آن معا. في الجانب الاول, لم يكن ثمة خيار امام اسرائيل لطرح موضوع الانسحاب من جنوب لبنان الا من خلال تنفيذ قرار مجلس الامن رقم 425. اولا لان لبنان دخل التسوية السلمية عام 1991 على أساس هذا القرار, وهو لا يزال يصر على تنفيذه, وثانيا لان اسرائيل تعتقد أنه بسبب أمساكها بزمام المبادرة في كل ما يتعلق بالتسوية السلمية وشروطها ووسائل تنفيذها تستطيع الوصول الى صيغة اتفاق شبيهة بصيغة اتفاق 17 مايو لعام ,1983 وهو باسلوب آخر وتحت مسميات مختلفة. كما هو معروف فان القرار 425 ينص على انسحاب اسرائيلي فوري وغير مشروط, نص القرار مختصر, بسيط, واضح ولا لبس فيه. كذلك فان القرار 426 المكمل له اشتمل على آلية التنفيذ من خلال الدور الواضح الذي اولاه للقوات الدولية, المرابطة في جنوب لبنان منذ عام ,1978 في هذا الشأن. ومع ان الحكومة الاسرائيلية اعلنت رسميا انها ستسحب قواتها من الجنوب اللبناني على اساس هذا القرار, بيد ان العرض الذي قدمته بعد اجتماع لمجلسها الوزاري المصغر, يتعلق بصيغة اخرى, وبشروط جديدة غير موجودة في النص الاصلي. العرض الاسرائيلي المشروط تضمن (وفقا للنص الرسمي) النقاط التالية. ــ تقبل الحكومة بالقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بحيث ينسحب الجيش الاسرائيلي من لبنان مع ترتيبات أمنية مناسبة, وبحيث يمكن الحكومة اللبنانية بسط سيطرتها الفعلية على جنوب لبنان وتحمل مسؤولية ضمان عدم إمكان استخدام هذه الاراضي قاعدة لنشاطات إرهابية ضد اسرائيل. ــ تعرب الحكومة عن تقديرها للجنود الاسرائيليين وقادتهم الذين قاتلوا للدفاع عن سكان شمال اسرائيل. وسيواصل الجيش نشاطاته ضد التهديدات الارهابية في (الحزام الأمني) حتى تنفيذ الترتيبات الامنية الضرورية. ــ تدعو الحكومة الاسرائيلية الحكومة اللبنانية الى البدء بمفاوضات على اساس القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي لبسط سيطرتها على الاراضي التي يسيطر عليها الآن الجيش الاسرائيلي ومنع نشاطات ارهابية ضد الحدود الشمالية لاسرائيل تنطلق منها. ــ تعتبر اسرائيل ان أمن سكان الحزام الامني في جنوب لبنان وجنود جيش لبنان الجنوبي وسلامتهم يشكلان جزءا لا يتجزأ من تطبيق القرار 425 الصادر عن مجلس الامن الدولي ومن اي ترتيبات اخرى يتم التوصل اليها لاحلال الأمن على حدودنا مع لبنان. ــ ستواصل اسرائيل جهودها للتوصل الى اتفاقات سلام مع كل جيرانها. استنادا الى مضمون البيان الاسرائيلي يتبين ان حكومة نتانياهو توافق على مبدأ الانسحاب, او التفاوض على الانسحاب وليس على القرار 425 لان الشروط التي يتضمنها البيان الاسرائيلي تتعلق بنص آخر, غير موجودة. فالحكومة الاسرائيلية تطلب او تقترح ترتيبات أمنية (مناسبة) واجراءات لبنانية داخلية تختص بقسم من اللبنانيين يقطنون المناطق الحدودية, وتتعلق بسلطة الدولة اللبنانية, كما تشمل امورا ومسائل اخرى لن تظهر تفاصيلها الا على طاولة المفاوضات, اذا ما رضخت الحكومة اللبنانية للعرض الاسرائيلي ومن مراجعة نص اتفاق 17 مايو الذي لم يبلغ مرحلة التنفيذ نجد انه يتضمن العديد من الاقتراحات والافكار الاسرائيلية مع اختلاف عناوينها فقط. حيال ذلك كان من الطبيعي ان ترفض الحكومة اللبنانية العرض الاسرائيلي لا سيما بعد اذاعة نصه الرسمي وتبين مضمونه الحقيقي قبل ذلك كانت هناك افكار اسرائيلية مبعثرة لكن هذه الافكار عندما انتظمت في نص واحد لتشكل صيغة عرض رسمي تأكد ان الحكومة الاسرائيلية لا تريد تطبيق القرار 425 وانما استخدامه كعنوان فقط لشيء آخر يختلف عنه بل يتناقض معه تناقضا كبيرا, وبطبيعة الحال فإن هذه الحقيقة لا تفوت حكومة نتانياهو ولا تخفي عليها. كما ان رد الفعل اللبناني او السوري او العربي عموما, لن يكن مفاجئا لها. فالانسحاب (الفوري) في نص القرار 425 يتحول الى مفاوضات حول (ترتيبات أمنية مناسبة) في العرض الاسرائيلي والانسحاب (غير المشروط) يصبح مرادفا لشروط كثيرة لا يمكن قبولها في اي حال من الاحوال, وآلية التنفيذ المبينة في القرار 426 الصادر في اليوم نفسه (قوامها قوات الامم المتحدة) تصبح ترتيبات ثنائية جديدة تقرر بالاتفاق مع الجانب الاسرائيلي..الخ. وعلى هذا النحو ماذا يتبقى من القرار 425؟ اذا كان الامر كذلك, وهذا يقودنا الى الجانب الثاني من دوافع الخطوة الاسرائيلية, فما هو هدف العرض الاسرائيلي إدن؟ ظاهر العرض الاسرائيلي يشير الى محاولة استدراج لبنان الى مفاوضات ثنائية ومنفردة مع الحكومة الليكودية لأن تنفيذ الانسحاب وفقا لصيغة العرض الاسرائيلي لا يمكن ان يتحقق الا عبر مفاوضات مباشرة معقدة وطويلة, نظرا لما تنطوي عليه من تفاصيل وفضلا عن ان مثل هذه المفاوضات المنفردة غير واردة لدى الحكومة اللبنانية. لأسباب كثيرة, فإن تجربة المفاوضات المنفردة على المسار الفلسطيني لا تشجع ابدا على الدخول في المتاهات الاسرائيلية. المراقبون يرون ان هذا الواقع لا يخفى على الحكومة الاسرائيلية, ولهذا فإن ما تردده اذن هو شيء آخر, أ و أشياء اخرى, تبدو كمجموعة عصافير تحاول اصابتها بحجر واحد. أول هذه الاشياء, أو الاهداف, دفع سوريا الى التفاوض مع حكومة نتانياهو خارج (ساحة الجولان) , ولأسباب لا تتعلق بالانسحاب الاسرائيلي من المرتفعات السورية المحتلة. لقد اعلنت حكومة بنيامين نتانياهو مرارا انها تريد ان تعقد صفقة مع القيادة السورية في شأن النفوذ السوري في لبنان, ويمكن ان تكون (المبادرة الاسرائيلية) الحالية مدخلا الى هذه الصفقة الموهومة. ولأن ذلك غير وارد طبعا, في الحسابات السورية على الاقل, فإن اسرائيل تكون قد حولت انتباه العالم نحو الوجود السوري في لبنان, من خلال اظهار دمشق وكأنها هي التي تمنع الحكومة اللبنانية من التفاهم معها, وبالتالي فإن هذا الوضع هو ما يحول دون الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني. كما تكون حكومة نتانياهو قد قدمت نفسها الى العالم على انها راغبة في السلام, في حين رفض الآخرون مساعيها (الايجابية) . وهذه الورقة نفسها يمكن ان توظفها حكومة نتانياهو على الصعيد الداخلي لاقناع الرأي العام الاسرائيلي بأنها تحاول الخروج من (المستنقع اللبناني) , لكنها لا تريد في الوقت نفسه التفريط, لا بأمن مستعمراتها الشمالية ولا بعلاقاتها مع المجموعات اللبنانية التي عملت لحساب (الامن الاسرائيلي) طوال السنوات العشرين الماضية. من هنا يمكن القول ان سوريا هي المستهدفة, بالدرجة الأولى, بهذه المناورة كما ان الفائدة الاسرائيلية منها ستكون مضاعفة عندما يتوقف الحديث عن الانسحاب من مرتفات الجولان وعن التسوية الشاملة, وبذلك يغرق الجميع في هذه المتاهة الاسرائيلية الجديدة. أما الهدف الآخر المهم فهو الابتعاد عن المسار الفلسطيني وترك المفاوضات هناك تراوح مكانها, في حين تستمر حكومة نتانياهو في خلق المزيد من الوقائع على الارض, وذلك من خلال التوسع الاستيطاني واشاعة المزيد من البلبلة, والتمزق والوهن لدى الجانب الفلسطيني مما قد يحفزه على تقديم المزيد من التنازلات بهدف الخروج من المأزق الراهن. في ضوء هذا الواقع ودلالاته بدت تعقيبات أمين عام الامم المتحدة كوفي عنان على (العرض الاسرائيلي) متسرعة وتنطوي على قراءة خاطئة له, وكما ذكر نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام ووزير الخارجية اللبناني فارس بويز, فقد حاول عنان إضفاء طابع الجدية الكاملة على اقتراحات الحكومة الاسرائيلية, كما تحدث بثقة عن (امور كثيرة وقعت على الارض خلال العشرين سنة الماضية وينبغي أخذها في الاعتبار) , وهو بذلك يؤيد الموقف الاسرائيلي الرامي الى حمل الطرف اللبناني على الاعتراف بالوقائع التي خلقها الاحتلال على الارض طوال السنوات الماضية, ومن بين هذه الوقائع (جيش لبنان الجنوبي) الذي تريده اسرائيل ان يستمر في حراسة حدودها الشمالية, في المستقبل, ربما في اطار صيغة (شبيهة بالصيغة التي تضمنها اتفاق (17 مايو) ) يتم بموجبها استيعاب عناصر هذا الجيش داخل القوات اللبنانية الرسمية وإيلاء مهمات محددة اليها في المناطق الحدودية. ان مهمة امين عام الامم المتحدة تفرض عليه السعي لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 وفقاً لنصه الحرفي ودون اضافة تفسيرات واجتهادات اليه تبدل من طبيعته وتسهل على اسرائيل التملص منه, فالمطلوب هو تنفيذ القرار وليس التفاوض حوله من جديد. اما فيما يتعلق بالولايات المتحدة فان موقفها لا يزال ملتبساً حتى الآن, فهي وان تكن رحبت بالخطوة الاسرائيلية, لكنها تخشى أن يؤدي التركيز على الموضوع اللبناني الى تجميد المسار الفلسطيني كلياً, وهو ما يستشف من المناورة الاسرائيلية. وفي جميع الاحوال فان بنيامين نتانياهو استطاع اضافة عامل جديد الى العوامل الاخرى التي تسهم في تصدع التسوية السلمية وانهيارها. ويتوقع المراقبون ان تكون المواجهة على تخوم المسارين اللبناني والسوري طويلة وشائكة وذات امتدادات واسعة. ومن المؤكد ان الاطراف المعنية لن توفر اي وسيلة من وسائل الضغط في هذه المواجهة, وهو ما يفتح الباب, ربما, أمام عمل عسكري كبير, بدأت التخوفات منه تظهر في تصريحات بعض المسؤولين اللبنانيين وفي تعبيراتهم القلقة كاتب لبناني مقيم في باريس* .

Email