ورقة الأقباط.. في زمن العجائب! بقلم - جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال ايام قليلة, تعاقبت اعياد المصريين ــ مسلمين واقباط ــ من عيد الاضحى الى عيد القيامة الى عيد شم النسيم غدا.. حيث يخرج المصريون جميعا للاحتفال بنعمة الله عليهم, يعانقون الطبيعة ويتحدون الايام القاسية ويعاودون اعلان ايمانهم بأن الربيع دائما يعود رغم الاعاصير.. وما اكثرها من حولنا هذه الايام . ومصر وحدها هي التي تستطيع ان تفعل ذلك, وتفعله بلا ادعاء, وانما لانه روحها الحقيقية التي لاتعرف التعصب والتي علمت العالم معنى التسامح, والتي استخلصت من الاديان السماوية كنزها الدفين كرسالات للتوحيد ودعوة لتحرير الانسان ونشر العدل في الارض كلها. وفي هذه العام يبدو اختفال المصريين بأعيادهم مختلفا, انه يكتسب لونا من التحدي في وجه حملة امريكية تكشف عن وجهها البشع حين توجه الاتهام لمصر, ومصر بالذات, بأنها تضطهد الاقلية القبطية فيها, وترتفع اصوات في الكونجرس تهدد بقطع المعونة عن مصر لهذا السبب, ويعد قانون يطالب الحكومة الامريكية بأن تعاقب كل حكومة تسمح بالاضطهاد الديني, وبوقاحة شديدة تكون مصر هي الهدف الاساسي للقانون, ويتم تجنيد بعض اقباط المهجر ليشاركوا في الحملة المسعورة المشبوهة ضد مصر. واللعبة قديمة, ولعبها الانجليز طوال سبعين عاما اجتمعوا فيها على صدر مصر, ولم يحققوا اي نجاح, وسجلت ثورة 19 هزيمتهم في التفريق بين مسلمي مصر واقباطها, وجاء دستور الاستقلال ليعلن الاقباط اثناء اعداده انهم ضد تخصيص نسبة من مقاعد البرلمان ووظائف الحكومة لهم كما اراد الانجليز, لان ذلك كان يعني تكريس الطائفية. وفي مباحثات الوفد من اجل الاستقلال كان نصف المفاوضين المصريين من الاقباط, وبعد الاستقلال كان في مصر رؤساء وزارات ووزراء سيادة من الاقباط, وكان مكرم عبيد هو الرجل الثاني في حزب الوفد لسنوات طويلة وكان سباقا في الدعوة للعروبة, وهو الذي اطلق القول الخالد (ان اقباط مصر اقباط دينيا ومسلمون ثقافة) . اللعبة قديمة.. وامريكا تحاول لعبها منذ ان اصبحت طرفا اساسيا في سياسة المنطقة وربما نجحت لعبتها في اقطار اخرى, ولكن مصر كانت ــ ومازالت ــ في هذه القضية شأنا آخر, واقباط مصر الذين وقفوا صفا واحدا مع مسلميها ضد المسيحيين الاوروبيين في الحروب الصليبية, مازالوا على نفس الطريق. ولعل القارىء يذكر كيف وقفت مصر كلها ضد مؤامرة قريبة كانت ترتدي ثوب العلم, وتثير القضية من خلال مؤتمر اعد له احد مراكز البحوث المرتبطة بالامريكان حول قضايا الاقليات في المنطقة.. واعتبر الاقباط احدى هذه الاقليات. ولم يفلح الرداء العلمي, ولا الأموال المشبوهة التي تنفق ببذخ على الكثير من مراكز البحوث الخاصة, ولا اثارة مشاعر الاقباط. ولا الدفع بمهاويس الاقباط في المهجر بحملة مشبوهة ضد اضطهاد مزعوم في مصر.. لم تفلح كلها في تمرير اكذوبة ان الاقباط اقلية.. واقلية مضطهدة, واضطر اصحاب المؤتمر الى الرحيل بمؤتمرهم الى خارج مصر هربا من مواجهة الرافضين لسلوكهم المشبوه. كان رد الاقباط قبل المسلمين, انهم ليسوا اقلية.. بل هم جزء من نسيج واحد هو شعب مصر العربي, وقد تكون هناك خلافات, وقد تكون هناك مشاكل, ولكنها خلافات ومشاكل الاسرة الواحدة.. تعرف كيف تواجهها وكيف تحلها كما فعلت على مدى تاريخ بأكمله. وهو نفس الموقف الذي يعلنه اقباط مصر اليوم في مواجهة الهجمة الامريكية على وحدة مصر الوطنية, ومن اصغر قبطي الى الوطني العظيم الباباشنودة الذي واجه بشجاعة حملة مستمرة منذ سنوات لانه يرفض التطبيع مع اسرائيل, ويعلن بكل وضوح ان الاقباط لن يذهبوا الى القدس الا مع اخوتهم المسلمين في مصر والبلاد العربية عندما تتحرر القدس من أسرها. واذا كانت الحكومة في مصر لديها من الاعتبارات ما يجعلها تستضيف وفدا من مجلس الكنائس الامريكية ليتعرف على احوال الاقباط في مصر, وليعود بعد ذلك فيقدم تقريرا منصفا لمصر وللحكومة وللحقوق المتساوية التي يحصل عليها الاقباط في مصر.. اذا كانت الحكومة في مصر لديها من الاعتبارات ما يجعلها تفعل ذلك, فإن الملايين من شعب مصر ــ مسلمين واقباطا ــ لاتهتم بذلك في قليل او كثير, ولاتنتظر شهادة حسن سير وسلوك من اي طرف كان لكي تثبت ما تعرفه جيدا وما تعيشه كل يوم على ارض الكنانة. للحكومة ضروراتها التي تجعل لشهادات وفد مجلس الكنائس قيمة في وجه الحملة الضارية ضد مصر التي يقوم بها تحالف صهاينة اسرائيل مع صهاينة امريكا, اما نحن فندرك ان هذه الشهادات نفسها هي الدليل على اننا في زمن العجائب.. الامريكية! فنحن ــ بكل المقاييس ــ لسنا المطالبين بالدفاع عن انفسنا ولا بتقديم شهادات حسن السير والسلوك, ولا امريكا هي جهة الاختصاص التي تصلح للحديث عن اضطهاد الاقليات وهي التي بنت تاريخها ودولتها على الاضطهاد, وابادت سكان البلاد الاصليين, ومارست صنوف الاستعباد على نصف شعبها من الزنوج حتى وقت قريب. ولسنا مطالبين بالدفاع عن انفسنا لان المتهمين الحقيقيين في لعبة الاضطهاد الديني تعرفهم امريكا, وتصادقهم, وتساندهم وتحفظ عناوينهم جيدا, سواء في البوسنة او في اسرائيل او في امريكا نفسها.. حيث ترتكب المذابح ضد المسلمين في قلب اوروبا التي تزعم التحضر, وحيث تبقى آثار العنصرية في امريكا, وحيث يطرد شعب بأكمله من وطنه فلسطين باسم صهيونية تمثل احقر انواع العنصرية التي عرفها التاريخ (حتى ولو اغضب ذلك السيد كوفي عنان الذي اعتبر قرار الامم المتحدة بان الصهيونية دعوة عنصرية قرارا خاطىء ينبغي الاعتذار عنه!!). لسنا مطالبين بالدفاع عن انفسنا, ولكننا مطالبون بأن نفتح العيون جيدا, وان نعيد قراءة الاحداث, وان ندرك حجم المؤامرات ضدنا, وان نستعد لمواجهة هذه التحديات بصف وطني متحد, وبرؤية سياسية استراتيجية لاتتعامل مع الاحداث بالقطاعي, ولا تكتفي بردود الافعال, وتدرك ان مصر مستهدفة وان حصارها واجب قومي امريكي, وان اغراقها في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والطائفية هو سياسة امريكية اصيلة تريد لمصر ان تبقى تحت السيطرة.. لا تغرق ولا تعوم, وانما تظل على الدوام تصارع مشاكلها! اننا نغض الطرف عن هذه القلة الضئيلة من مهاويس الاقباط في المهجر التي تهاجم وطنها مصر, فهؤلاء لم يكونوا يمثلون شيئا, وهم من البداية الى النهاية ليسوا الا ادوات في ايدى المخابرات الامريكية, مثلهم في ذلك مثل قوافل الارهاب التي دربتها امريكا في افغانستان, ومولتها بعد ذلك وسلحتها, ثم اطلقتها في الدول العربية تعيث فسادا وقتلا وتدميرا.. باسم الاسلام المفترى عليه. نغض الطرف عن هؤلاء, ونقف امام الفاعل الاصلي.. ونقرأ تتابع الاحداث الذي لايتم بالصدفة ابدا في عالم السياسة ولعبة الاجهزة, فليس صدفة ان تتابع احداث الاقصر لضرب السياحة, ثم الضغوط الامريكية والتهديد بقطع المعونة, ثم التآمر لخفض اسعار البترول, ثم هذه الضجة المزعومة حول اضطهاد الاقباط, ثم اخيرا هذا التحذير المشبوه من امريكا لرعاياها بالحذر من الاوضاع الامنية في مصر في وقت تستقر فيه حالة الامن وتبدأ السياحة في استعادة ما فقدته بسبب حادث الاقصر المشبوه. انهم يتصورون ان هذه الضغوط سترغم مصر على تغيير مواقفها, والرضوخ لما تريده السياسة الامريكية دون مناقشة وهم واهمون في ذلك لان ما تفعله مصر ليس نزوة سياسية وليس موقفا طارئا, ولكنه التعبير عن مسؤوليات مصر التي لا تستطيع ان تتخلى عنها, والا انكشف امنها وتهدد استقرارها وتعرض مستقبلها للخطر. مصر لاتستطيع ان تكون شاهد زور لتمرير سياسات امريكا في المنطقة, بينما العالم كله يدرك ان هذه السياسات تنحاز لاسرائيل بلا حياء, وتهدر الحقوق العربية بكل اصرار. ومصر لاتستطيع ان تسكت على احلاف مشبوهة تقيمها امريكا وتشترك فيها اسرائيل وتركيا واطراف اخرى بهدف تطويق المنطقة والسيطرة عليها.. وعلى حساب العرب وحدهم. ومصر لا تستطيع ان تقبل ان تكون على حدودها دولة معادية جعلت منها امريكا ترسانة حربية مسلحة حتى النخاع بكل انواع الاسلحة التقليدية, بينما تقيم امريكا الدنيا وتقعدها اذا سمعت عن صاروخ (تسلل) الى جيش عربي حتى ولو كان يبعد آلاف الاميال عن واحة الديمقراطية التي تتسلح بالذرة لاغتصاب الارض العربية. ومصر لاتستطيع ان تعزل نفسها, ولاتقبل ان يعزلها الآخرون عن عالمها العربي, وتدرك ان بقاء نصف العالم العربي محاصر وضع لابد ان ينتهي من اجل الامن القومي العربي والمصالح العربية الواحدة. ومصر لاتستطيع ان تغض الطرف عن التحركات المشبوهة ضدها في دول حوض النيل, وتدرك ان امريكا ليست بعيدة, وان اسرائيل تلعب هناك منذ سنوات. وكل ذلك مفهوم الى حد بعيد ومتوقع من امريكا في صراعها للسيطرة على المنطقة, ولكن غير المفهوم ان تكون مصر متهمة ــ من الجانب الامريكي ــ بأنها تمارس ضغوطا شديدة على القيادة الفلسطينية لكي لا تقدم المزيد من التنازلات ولكي لاتقبل المزيد من التفريط في الحقوق المشروعة!. وهو اتهام تردده اسرائيل وتردده امريكا, اما مصر فترد بأن القيادة الفلسطينية حرة في اتخاذ قرارها, وان الشعب الفلسطيني هو وحده الذي يحاسبها.. وما اصعب الحساب من شعب ضحى بالكثير, ليجد في النهاية من يبيع تضحياته بأبخس الاثمان!!

Email