من اجل حفنة أصوات: بقلم- مصطفى كمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك اكثر من ملاحظة تستحق الانتباه حول العريضة التي وقعها 76 عضوا بمجلس الشيوخ الامريكي, فضلا عن 150 آخرين من اعضاء مجلس النواب, يطالبون فيها الرئيس كلينتون بالامتناع عن ممارسة اي ضغوط على اسرائيل لتنفيذ التزاماتها تجاه عملية السلام . وأول ما يلفت النظر في شأن هذه العريضة الغريبة هو ان كلينتون وجدها على مكتبه اثر عودته من جولته الاعلامية بست دول افريقية الى جانب تقرير مبعوثه دينيس روس حول مهمته الاخيرة في الشرق الاوسط. والذي كانت انباء فشله في زحزحة نتانياهو عن تعنته قد سبقته الى الرئيس الامريكي وهو يستمع الى تقرير مضيفه نيلسون مانديلا في جنوب افريقيا. غير ان بعض المراقبين يقولون ان هذه العريضة لم تكن مفاجئة لكلينتون وانها كانت جاهزة من قبل ان يقوم بجولته الافريقية, وقبل الاعلان عن فشل دينيس روس في الشرق الاوسط, وانها اعدت بمعرفة البيت الابيض كي يتخذها كلينتون حجة وجيهة يعتذر بها امام الاطراف العربية والدولية عن الاستجابة لمطالبتها له بالضغط على اسرائيل. والذين يقولون بهذا الرأي يستندون الى سابقة تاريخية ما زالت قائمة حتى هذه اللحظة, وهي امتناع الادارة الامريكية عن سداد مستحقات الامم المتحدة بحجة ان الكونجرس لم يوافق على اعتمادات السداد حتى الآن. وسواء كان هذا الافتراض صحيحا او لم يكن فنحن الآن امام واقعة صحيحة وثابتة... تلك هي ان اغلبية كبيرة جدا في مجلس الشيوخ الامريكي (76 من 100) يطالبون باستمرار التواطؤ الامريكي مع اسرائيل في انتهاكها للشرعية الدولية, وعرقلة مسيرة السلام. ودعونا من الحديث عن مساندة 150 نائبا للمطلب نفسه.. ففي اغلبية اكثر من ثلاثة ارباع مجلس الشيوخ كفاية وفوق الكفاية لعرقلة اي قرار رئاسي لا يوافق هواها. ومن المؤكد ان اكثر هؤلاء الشيوخ والنواب الذين يبيعون اصواتهم لليمين المتطرف الاسرائيلي لا يعرفون شيئا يذكر عن ابعاد مشكلة الشرق الاوسط وحقيقة النزاع العربي الاسرائيلي. فكل معلوماتهم مستمدة من جمعيات العصابات اليهودية النشطة في مقار لجانهم الانتخابية. ومع ان اصوات هؤلاء قد تكون قليلة, الا انهم مدربون جيدا لكي يكون صوتهم اكثر صخبا وضجة. ولعل هذه القدرة على الصخب هي التي جعلت الرئيس الاسبق ترومان يعبر عن انحيازه مع الاسرائيليين رغم يقينه بعدالة القضية العربية بقوله: (كم عدد الاصوات التي يملكها العرب في الانتخابات؟) . المسألة اذن بالنسبة للسادة اعضاء الكونجرس الامريكي لا علاقة لها بقيم الحق والعدل او المصداقية والشرعية الدولية, أو حتى بالمصالح الحقيقية للشعب الامريكي الذي يحملون أمانة تمثيله, وانما هي معايير انتخابية بحتة من اجلها يمكن التضحية بكل شيء حتى بآخر قطرة من حمرة الخجل. بيد ان عريضة الكونجرس لا تعبر فقط عن فقر في القيم لدى اعضاء السلطة التشريعية العليا في الولايات المتحدة, وانما هي ايضا تعكس فقرا اشد في الوعي السياسي من قوم يفترض في اي واحد منهم ان يكون رئيسا لأقوى وأغنى دولة في العالم بعد سنوات. فهم عندما يطالبون بعدم الضغط على اسرائيل انما هم في الواقع يتواطؤون مع اكثر العناصر تطرفا في حزب الليكود. وهذه العناصر المتطرفة معادية للسلام بحكم معتقداتها التوراتية وايمانهم بأسطورة اسرائيل الكبرى وسيادة بني اسرائيل على سائر البشر باعتبارهم شعب الله المختار... الى آخر تلك الخرافات التي تعشعش في اذهانهم والكفيلة بأن توردهم في النهاية موارد التهلكة. ومن ثم فإن هؤلاء الشيوخ والنواب الامريكيين انما يساعدون على اهدار فرصة السلام السانحة الآن لاسرائيل, والتي لن تتكرر ابدا. وهم في غمرة انسياقهم وراء الدوافع الانتخابية ــ المبالغ فيها جدا ــ يتجاهلون ايضا المصلحة الحقيقية للولايات المتحدة الامريكية والتي تتطلب أولا وقبل كل شيء هدوء الاوضاع واستقرارها في هذه المنطقة من العالم. وهو امر لا سبيل اليه الا مع استتباب السلام, الذي في ظله يستمر تدفق الوقود بلا عوائق, ويستمر تدفق التجارة والاستثمارات بلا منغصات. انهم من فرط حماسهم الاعمى لاسرائيل, لم يسمحوا لأنفسهم بأن يكونوا ذيولا لنتانياهو المتطرف فحسب, وانما عميت عيونهم ايضا عن المصالح القومية العليا للولايات المتحدة الامريكية. غير ان هذا لا ينبغي ان يلهينا عن المغزى الحقيقي ــ الذي يهمنا معشر العرب ــ لعريضة الشيوخ والنواب الامريكيين. ذلك هو ان نفوذ الصهيونية العالمية قد امسك بخناق صناع القرار في الولايات المتحدة الامريكية الى حد لا يمكن تجاهله, أو الاستسلام له وكأنه قدر لا سبيل الى مواجهته.. ولما كان العرب لا يستطيعون ــ لأسباب عديدة لا داعي لتكرارها ــ تجاهل الولايات المتحدة أو مناصبتها العداء الصريح ــ فإننا لا نملك ازاء هذا الاتجاه الذي افصح عنه اعضاء الكونجرس إلا احد امرين: إما التسليم بالأمر الواقع, والاذعان لأي قرار يصدر من واشنطن ونحن نعلم جيدا ان مرجعيته الاولى في تل ابيب.. بل في مقر الليكود الرئيسي باسرائيل... وهذا طريق مرفوض. وإما ان نطرق كل الابواب الكفيلة برفع الغشاوة الاسرائيلية عن الشيوخ والنواب الامريكيين. وهذا هو السبيل الصحيح الوحيد. وعندما نطرق هذا السبيل الصحيح سنكتشف انه ليس مستحيلا أو شديد الوعورة كمايتراءى لأول وهلة, خصوصا اذا تحرك العرب على محورين في وقت واحد: الاعلام, والتنظيم. ومهمة الاعلام هي توصيل الحقيقة الى كل مدينة وقرية بل الى كل شارع وبيت في الولايات المتحدة الامريكية... وبالذات الى الشيوخ والنواب والمرشحين والناخبين. ولا نزاع في ان هذه عملية صعبة. ولكن الجمعيات اليهودية في الولايات المتحدة تقوم بها على نحو ناجح جدا رغم انهم لا يستندون الى اسس العدل والانسانية والشرعية الدولية والحقوق القانوينة التي تقوم عليها قضيتنا. ونحن لدينا قاعدة اكثر عددا, ويمكن جدا ان تكون اكثر نفوذا من الخمسة ملايين يهودي بالولايات المتحدة الامريكية. فمجموع العرب والمسلمين الامريكيين اكثر كثيرا من ناحية العدد. ويمكن ان يضاف الى هؤلاء اضعافهم من المتعاطفين وخاصة بين السود والاقليات غير المنحدرة من اصول يهودية. وكل ما ينقصنا لتعبئة هؤلاء في قوة ضاربة مؤثرة هو بعض التنظيم. وهناك بالفعل عدد من الجمعيات العربية موجودة بالولايات المتحدة يمكن ان تكون نواة لهذا التنظيم... بحيث يكون الهدف هو انشاء شبكة (اعلام) في كل قرية وحي ومدينة... وتكون مهمة هذه اللجنة توصيل المعلومة الصحيحة سواء بالبريد أو الهاتف او الاتصال الشخصي. يهود امريكا فعلوا ذلك. ونحن نستطيع ان نفعل الشيء نفسه. ففي كل تجمع نجد لجنة يهودية. هذه اللجنة احيانا قد تكون فردا واحدا.. واحيانا تضم آلاف الاعضاء. وفي كل مشكلة تتعرض لها اسرائيل, تتحرك كل هذه اللجان كأنها جسم واحد تتهادى على عضو الكونجرس مئات وربما آلاف الرسائل والبرقيات والمكالمات من ناخبي دائرة تشرح له الامر من وجهة النظر الاسرائيلية وتطالبه باتخاذ الموقف المناسب. هذا بالطبع الى جانب اقامة الندوات ــ ويكون فيها عضو الكونجرس هو ضيف الشرف ــ حيث تجري عملية غسل الدماغ... وربما يساعد عليها ايضا بعض الهدايا... فضلا عن التبرعات المالية المجزية عند الترشيح للانتخابات. وكل هذا ينجح فيه يهود امريكا بالرغم من الثقوب العديدة في عدالة قضيتهم, لأنهم وحدهم الموجودون على الساحة. غير ان هذا النجاح يصبح مشكوكا فيه كثيرا عندما يوجد آخرون يعملون في الاتجاه المضاد, الأكثر عدلا, وانصافا للحق والشرع الدولي والانساني. غير ان هذا كله يتطلب جهدا قوميا. والجهد القومي لا يقتصر على الحكومات فحسب, وانما هو يقوم اساسا على القواعد الجماهيرية. هذا بالتحديد ما ندعو اليه... مؤكدين على الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان, تلك هي ان مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.

Email