خمسون عاما على النكبة.. هل تغير المشروع الصهيوني؟! (1) بقلم - د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تصادف في هذه الايام ذكرى مرور خمسين عاما على اغتصاب فلسطين, وهي بلاشك من اكثر المحطات مأساوية وسوداوية في تاريخ هذه الامة , ففي مثل هذه الايام من عام 1948, شهدت الجيوش العربية المكلفة بمواجهة خطر العصابات الصهيونية واطماعها في فلسطين تراجعا نتج عنه نشأة الكيان الصهيوني, وذلك بعد سلسلة من حملات البطش والعدوان المشتملة على الاعمال الفظيعة من الدرجة الاولى, وهي من الحملات النادرة التي تحتفظ بها الذاكرة الانسانية عبر تاريخ الصراعات فيها. ولست هنا بصدد سرد الواقعات والفاجعات التي مرت بها الامة منذ ذلك التاريخ, مرورا بعدوان 56, ونكسة 67, والاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 78, وعزوها عام 82, وعناقيد غضبها على اطفال الجنوب اللبناني وشيوخه ونسائه عام 96, ولست اتعرض هنا كذلك لتفاصيل عدوانها على اهداف عربية خارج نطاق دول المواجهة , كالعراق في عام 1981 وتونس 1988, وكذلك عمليات الاغتيال ومحاولاته التي استهدفت الرموز القيادية والجهادية الفلسطينية وما حادثة الشريف, وقبلها خالد مشعل عنا ببعيدة. كل تلك المشاهد وغيرها قد تناولها المؤرخون والباحثون في سياق دراسة النكبة وما تلاها, وكل ذلك يثبت كذلك, ان اليد الصهيونية ملوثة, بل وغارقة في الدماء العربية. والذي يعنينا من ذلك كله, هو اثبات حقائق صنائع الصهاينة في الارض الفلسطينية والعربية, خاصة واننا نشهد في هذا الزمان حملات مكثفة لنفي تلك الحقائق ومسحها من الذاكرة العربية, وهي حملات بدأت مع اتفاقيات (السلام) واشتدت مع التطبيع, وقد كان ذلك لتحقيق اهداف عدة اهمها الترويج لبضاعة السلام وفقا للمفهوم الاسرائيل. ما يدعونا لاثبات هذا في الذاكرة العربية ان الوضع الفلسطيني البائس, والذي بدأت اولى فصوله عام 1948, لم يطرأ عليه تحسن, بل العكس من ذلك فالمؤشرات الحالية في الواقع الفلسطيني تدل على استمراره وفداحته, وسنعرض لذلك بعد الاشارة الى حالة عادية تعبر عن هذا الواقع. فمنذ ايام اوردت وسائل الاعلام تلك الحالة التي تحمل مظاهر ذلك البؤس ــ وهي بلاشك تعبير دقيق عن الالوف من الحالات المشابهة في الارض الفلسطينية المحتلة ــ وبدرجة اقل بؤسا لدى فلسطيني المهجر. صاحب هذا الحالة التي عرضت له وسائل الاعلام باعتباره احد ضحايا المشروع الصهيوني, والذي ولد في اثناء نكبة 1948 يدعى مهاجر ابو عرجود, واسمه الاول (مهاجر) مستوحى من الظروف التي ولد فيها, وتقول امه انها ولدته في الطريق الى مخيم للاجئين وقت حدوث نكبة فلسطين واعلان انشاء الكيان, لذا فانه عندما تحتفل اسرائيل بذكرى قيامها قبل نصف قرن, يستعيد مهاجر ذكريات مريرة عن محنته هو واهله, حيث ان آلاف الفلسطينيين هربوا او طردوا من فلسطين المحتلة في مايو 1948 بسبب تقدم القوات اليهودية وفشل الجيوش العربية في اتباع استراتيجية هجومية مشتركة لوقف قيام الكيان الغاصب. تقول الحاجة ام مهاجر: لم يكن لدينا سلاح لندافع عن انفسنا لم يكن امامنا سوى الهروب لايام قليلة الى ان تهدأ الامور, ولكن الايام القليلة استمرت خمسين عاما. اما مهاجر الذي ولد في عام النكبة ونشأ في تلك المأساة, فقد واجه المعاناة ذاتها التي واجهها الفلسطينيون هناك, وبالطبع كان يتطلع الى نهاية سعيدة لذلك الكابوس الصهيوني المظلم, شأنه في ذلك شأن سائر اهله وعشيرته وبني قومه. لذا فإن الشعارات التي حملت لافتة السلام جعلته يحلم بمثل ذلك الخلاص الذي كان كذلك حلم الجماهير العربية وعندما وقعت اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاق اوسلو للسلام في 1993 شعر مهاجر بالسعادة, وانضم الى آلاف الفلسطينيين في مظاهرات الترحيب بالحكم الذاتي الفلسطيني في 1994 والتخلص من الاحتلال!! يقول مهاجر: اعتقدت ان الاتفاق سينهي معاناة رزحنا تحت وطأتها منذ 1948, ولكنه يشعر بخيبة امل بتوقف عملية السلام, ويقول: لا اعتقد ان اسرائيل جادة في التوصل الى سلام حقيقي وعادل. السلام الحقيقي هو الذي يعيد الينا ارضنا في بئر السبع (رويتر, عن الخليج 98/4/16). من وحي هذا التعبير الدقيق الذي صدر عن مواطن فلسطيني بسيط, دعونا نقف على ما صار اليه الملف الفلسطيني في ظل مسيرة التسوية التي بدأت في مدريد عام 1991 وذلك حتى لا يقتصر وقوفنا عند هذه المناسبات على وصف للاحداث واستعراض لها, او تصنيف للفئات وتوزيع للاتهامات على المشاركين في تاريخ العلاقة بين العرب واسرائيل, سواء اكان ذلك في حالة الحرب ام التسوية, ففي العام الماضي كان هناك ما يشبه (الاحتفال) بمرور ثلاثين عاما على نكسة 1967, ويضاف ــ هذا العام ــ الى ذكرى نكبة 48 مرور عشرين عاما على الاجتياح الاسرائيلي للجنوب اللبناني في 1978 وهكذا تتكرر المناسبات المحزنة, بل وتزداد, ولعل من اواخر تلك المشاهد البائسة ما تشهده الساحة الفلسطينية الداخلية من تصعيد بين سلطة الحكم الذاتي وحماس وهي ــ بلاشك ــ تمثل فصلا مؤسفا من فصول المأساة المستمرة. اذا عدنا الى تعبير الفلسطيني العادي المتقدم وتوقعاته من اتفاقيات (السلام ــ وهما بالمناسبة يعبران الى حد كبير عن توجه عام ــ ليس فقط في الساحة الفلسطينية بل وعلى الصعيدين العربي والاسلامي وذلك لاعتبارات عدة تتعلق بطبيعة هذه القضية من حيث المكانة الخاصة التي تمثلها بالنسبة للعرب والمسلمين, وكذلك المسيحيين. واذا كانت توقعات وتطلعات الفرد الفلسطيني العادي ــ وهو الطرف المتضرر المباشر من العدوان الاسرائيلي ومن اتفاقيات (السلام) غير المتحققة, وليس الحديث هنا عن توفير ادوات الرفاهية ووسائلها فتلك امور غير متوقعة في الظروف الراهنة, وهي كذلك مستبعدة في المستقبل المنظور, وانما البحث هنا عن ابسط مطالب الانسان في ضرورات حياته المعيشية اليومية, حيث يعد ــ في هذا السياق ــ التحسين في اوضاعه المعيشية من الاولويات التي يتطلع اليها. ويضاف الى تلك الاولوية ــ بلاشك ــ مسألة اعادة الحقوق ورد المظالم وتحرير الارض وانشاء الكيان الفلسطيني ذي السيادة الحقيقية, وهي قضايا تمثل اهمية كبرى للفلسطينيين اذ بغيرها لايمكن التصديق بوجود سلام, حيث تفتقد تلك الاسس الهامة. بسبب من ذلك, فإنه من الضروري التعرض الى موقع تلك القضايا والاسس في ظل مسيرة التسوية الاخيرة, والتي انطلقت في مدريد قبل نحو سبع سنوات, والاهم من ذلك كله هو التوقف عند (الحالة) الصهيونية الذي يتم التعامل معها, هل لازالت ملتزمة بمشروعاتها؟ وهل هناك ثوابت في مشروعها في الارض العربية؟ واذا كان الامر كذلك فهل هناك تغيير في تلك الثوابت؟ وما الذي يجب ان يكون عليه موقفنا في التعامل مع المشروع الصهيوني؟ احسب انها تساؤلات مشروعة, وهي هامة كذلك, وتستحق ان نتوقف عندها وقفة ثانية, ولذلك صلة في الاسبوع المقبل بإذن الله.

Email