ظاهرة العنف الطلابي والتلفزيون: هل من علاقة؟ بقلم - الدكتور محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

نزل الخبر كالصاعقة, تلميذان يطلقان النار على زملائهم وأساتذتهم فيقتلون أربعة من زملائهم ومدرسة الانجليزية, أحدهم يبلغ من العمر 13 سنة والآخر 11 سنة. حدث هذا في قرية جونسبورو الصغيرة بولاية أركانسو بالولايات المتحدة الأمريكية في 25 مارس 1998م, ومنذ أكتوبر من السنة الماضية تحدث مثل هذه الجرائم للمرة الرابعة من طرف أطفال المدارس في أمريكا. الواقعة احدثت ضجة في الرأي العام الأمريكي وخاصة في الأوساط التربوية والعلمية والبيداغوجية. ظاهرة غير سوية بطبيعة الحال, والسؤال الذي طرحه ويطرحه العام والخاص هو ما هي أسباب هذا السلوك العدواني وهذا العنف في أوساط اطفال صغار لم يبلغوا سن الرشد بعد؟ من هو المسؤول؟ وما هي الجذور الحقيقية لمثل هذه السلوكيات والتصرفات؟ بعض أصابع الاتهام وجهت كالعادة للتلفزيون كوسيلة إعلامية يقضي الاطفال في امريكا وفي مختلف دول العالم وقتاً طويلاً أمامه يتراوح ما بين الاربع ساعات ويصل بعض الاحيان الى الثماني, الدراسات أكد أن الاطفال يقضون وقتا أمام شاشة التلفزيون يوازي نفس الوقت الذي يقضونه في المدرسة. اين الحقيقة في هذا الاتهام وهل هناك علاقة ارتباطية بين المادة الاعلامية التي تحمل في طياتها مظاهر وسلوك العنف وممارسة العنف في الواقع؟ أم هناك أسباب أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار لتفسير السلوك العدواني وغير السوي عند الاطفال. الموضوع ليس بهذه البساطة وهذه السهولة وإنما يتطلب البحث في جذور المشكلة وفي الاسباب المختلفة التي تؤدي الى السلوك العدواني. وبداية يجب ان نسلط الأضواء على بعض النظريات التي حاولت ان تشرح وتفسر العلاقة بين الوسيلة الاعلامية وسلوك الفرد وكذلك نظريات العنف التي حاولت ان تحدد التأثيرات المختلفة للرسالة الاعلامية على سلوك وتصرفات الافراد وما هي المستلزمات والشروط التي يجب ان تتوفر حتى يكون هناك رد فعل واستجابة لمنبه. ادبيات نظريات الاعلام تعود بنا للبدايات الاولى لعلم الاتصال الجماهيري الى نظرية الرصاصة او نظرية الإبرة تحت الجلد التي كانت تؤمن ايماناً راسخاً ان هناك علاقة ارتباطية قوية بين الرسالة الاعلامية وسلوك الفرد. ومن هذا المنطلق فإن السلوك الإجرامي للتلميذين في قرية جونسبورو يعود بالدرجة الاولى الى مشاهد العنف التي تقدمها افلام الكارتون وغيرها من المواد التي يقدمها التلفزيون للأطفال في أمريكا. فنظرية الرصاصة تؤمن بالجمهور السلبي وبأن سلوك الإنسان ما هو الا استجابة للمنبه, وقد يكون المنبه هنا الرسالة التي تقدمها الوسيلة الاعلامية لم تعمر نظرية الرصاصة كثيراً نظراً للمسلمات الخاطئة التي انطلقت منها وجاء الواقع ليبرهن على أن ليس كل ما يقدم من خلال وسائل الاعلام وخاصة التلفزيون يعتمده الشخصالمستقبل. وهكذا لم تستطع نظرية الرصاصة ان توضح وتحدد علميا علاقة الوسيلة الاعلامية بسلوك الفرد. فبالنسبة لعلماء الاتصال الجماهيري وعلماء النفس والاجتماع ان دراسة سلوك الإنسان ليست بسيطة وإنما تصرف الفرد يخضع لعدة معطيات وعدة عوامل ولا يمكن ارجاعه الى عامل واحد كأفلام العنف التي تقدم في التلفزيون. اضف الى ذلك ان الفرد يخضع لعدة عوامل اجتماعية وتربوية وعائلية ودينية واقتصادية ونفسية وغيرها تتحكم وتؤثر في سلوكه بطريقة أو بأخرى. فإننا اذا لا نستطيع بأي حال من الأحوال ان نوجه أصابع الاتهام للتلفزيون وحده فيما يتعلق بحادثة جونسبورو ولو ان التلفزيون لعب دورا لا يستهان به في الحادثة. علماء الاجتماع وغيرهم في الولايات المتحدة الامريكية يؤكدون على الظروف الصعبة التي يعيش فيها الطفل الأمريكي من سوء المعاملة وانعدام الاهتمام والحب والعطف والحنان, وكذلك المعاناة من تمزق العائلة والمادية والأنانية والفراغ الروحي. فواحد من خمسة اطفال في أمريكا يعيش في الفقر وواحد من أربعة يولد بطريقة غير شرعية. فمثل هذه العوامل تترك أثاراً جداً سلبية على الاطفال خاصة اذا غذتها عوامل اخرى كالإقبال على الكحول والمخدرات والجنس وغيرها وكذلك اذا غذتها مواد اعلامية تستخدم العنف والجريمة في هذه الحالة تتشابك العوامل وتنصر وتجعل من الطفل او الشاب التائه السائب الضائع منحرفاً ومجرما وشريراً يكون وجوده خطراً كبيراً على المجتمع. حسب الإحصائيات الرسمية نصف المجتمع الأمريكي يملك سلاح معين سواء كان مسدساً او بندقية او رشاشاً. الخ, ومعظم الاحيان تترك هذه الاسلحة في أماكن يصل اليها الاطفال بسهولة كبيرة. فالأمر اذا أهم وأخطر من أن يكون السبب في حادثة جونسبورو هو التلفزيون لكن الأسباب هنا معقدة ومتشابكة ولا يمكننا ان نرجعها الى سبب واحد. نظريات الاتصال التي درست ظاهرة العنف كما تعرض في وسائل الاعلام المختلفة وكسلوك يسلكه بعض الافراد أكدت ان نسبة كبيرة جداً ــ حوالي 80% ــ من المواد التي يبثها التلفزيون الأمريكي هي مواد تحتوي على مشاهد العنف وهذا يعني ان هناك مشكل في القيم الخبرية وفي المادة الاعلامية التي تقدم للفرد الأمريكي وهناك نوع من التأثير او من العلاقة بين ما تقدمه وسائل الاعلام وسلوك افراد المجتمع الأمريكي فإذا كانت هذه النسبة العالية تقدم باستمرار وبانتظام فهذا يعني ان مظاهر العنف أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الفرد وقيمه ومعتقداته ومرجعيته. واذا كان الطفل الصغير معرضاً لسيل جارف من المواد التلفزيونية التي تحمل في طياتها العنف والتصرفات العدوانية وإذا كان يترك لحاله في مشاهدة التلفزيون والتعرض لألعاب الفيديو ففي هذه الحالة حظوظ الانحراف تكون مرتفعة جداً. وفي هذه الحالة تنسحب نظرية إثارة الحوافز العدوانية حيث أن المثابرة على مشاهدة العنف من خلال المواد التي يقدمها التلفزيون تؤدي الى ارتفاع حدة الاثارة النفسية والعاطفية عند المتلقي وهذا ما يؤدي الى حدوث السلوك العدواني. وتتلاحم عوامل عدة منها الإحباط و الشعور بالتهميش وسوء المعاملة وانعدام الحنان والعطف العائلي والفراغ الروحي كل هذه العوامل مشتركة اضافة الى التعرض للتلفزيون ولمواد العنف تؤدي في النهاية الى تقليد في أرض الواقع ما شاهده الطفل في الدراما التلفزيونية وفي أفلام الخيال. من هنا نلاحظ ان حادثة جونسبورو لم تأت من العدم وإنما كانت هناك معطيات عديدة أدت الى حدوثها, وهنا نلاحظ كذلك انسحاب نظرية التعلم من خلال الملاحظة والتي تؤكد على أن الأفراد يتبنون ويتعلمون السلوك العدواني من خلال تعرضهم للتلفزيون ويعملون على تقليد وتنميط تصرفاتهم حسب سلوكيات بطل او ابطال الفيلم, والاستمرارية في المشاهدة وتعاطي افلام العنف تؤدي الى الهروب من الواقع وتبني حياة الخيال ومناخ العنف والجريمة والسلوك العدواني ويصبح الفرد يعيش في عالم بعيد عن الواقع والعالم الحقيقي الذي يعيش فيه البشر, ويلجأ الاشخاص الى تقمص شخصيات الافلام ولا يفرقون بين الدراما والخيال والواقع ويبررون فشلهم بالهروب من الواقع والانتقام من المجتمع بكل مكوناته المادية والبشرية فطفل الثلاثة عشر ربيعا انتقم من زملائه ومن المدرسة بحجة ان صديقته رفضته وقررت ان تقطع علاقتها معه, وممارسة العنف هنا ينظر لها على اساس انها اسلوب حياة ناجح لمواجهة التهميش والفشل والمشاكل الاجتماعية والنفسية. كما يرى فريق من الباحثين في الاتصال الجماهيري وفي علم النفس ان المادة الاعلامية التي تحمل في طياتها العنف والسلوك العدواني تعزز وتدعم انماط السلوك الموجودة اصلا عند المستقبل, وترى نظرية التعزيز هذه ان التعرض للعنف في التلفزيون يؤكد صحة الاتجاه العدواني الموجود عند الشخص, وهنا يجد المتلقي الراحة النفسية عندما يجد التطابق في الاعتقادات والقيم والتصرفات الموجودة عنده والمتشبع بها وتلك التي تعرضها وسائل الاعلام مزخرفة بطبيعة الحال بالخيال والدراما والى غير ذلك. وهنا يجد المشاهد ضالته ويعزز قناعاته وميوله ورغباته حيث يتبادر له انه على صواب وباقي المجتمع على خطأ. جريمة جونسبورو تثير الكثير من التساؤلات وتكشف عن تناقضات عدة يعيشها مجتمع نالت منه الانانية والمادية وحب النفس والفراغ الروحي والتشتت العائلي والجريمة والعنف والفضائح, هذه الظاهرة على اية حال لاينفرد به المجتمع الامريكي لوحده وانما معظم دول امريكا اللاتينية واوروبا والكثير من دول العالم الثالث تعاني من نفس المشكل ففي فرنسا على سبيل المثال شهدت المدارس الفرنسية في العام 1997 اكثر من 1000 حادث عنف, وحسب الخبير والاستاذ في علم التربية البروفيسور جاك باين فإن (العنف ضد المؤسسات التربوية يبرز فقدان الثقة في المؤسسات وفي الكبار وفي المجتمع ككل) فانعدام الثقة في المستقبل وانتشار البطالة والفوارق الاجتماعية وتباين الطبقات هذه العوامل كلها تؤدي الى احباط نفسي خطير من شأنه ان يولد الحقد والكراهية ضد النظام وكل مقومات المجتمع وعناصره ومكوناته واتباعه. التلفزيون اذا ليس هو المتهم الوحيد في حادثة جونسبورو وانما هو احد الممثلين الرئيسيين في العملية الاجرامية اضافة الى عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية ودينية وروحية, واللوم الذي يمكن توجيهه الى المسؤولين على البرامج التلفزيونية وعلى الصناعات الثقافية بصفة عامة هو التخلص من روح التجارة والاهتمام اكثر فأكثر بالمجتمع وقيمه, فبالنسبة لتجار الدراما التلفزيونية هو اللعب على اوتار المراهقة والعواطف عند الشباب وهذا من خلال الاثارة والعنف والجريمة والجنس والفضائح للوصول الى اكبر شريحة في المجتمع, وهكذا اصبحت علامة النجاح في الابداع الفني والانتاج الثقافي مرتبطة ارتباطا عضويا ووثيقا بالعنف ومشتقاته, السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو على حساب من؟ ولصالح من؟ (انما الامم اخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت اخلاقهم ذهبوا) ومع الاسف الشديد اصبحت الاخلاق في ايامنا هذه من المصنفات التاريخية والارشيف. قسم الاتصال الجماهيري جامعة الإمارات *

Email