مصير (أطفال الحجارة): بقلم- شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت بيروت الوفية تتهيأ لاعلان موسمها الثقافي القومي بمناسبة الذكرى الخمسينية لاغتصاب فلسطين واقامة الكيان الصهيوني تحت عنوان (نكبة ومقاومة) . وكنا نعد الشموع والورود لنزحف في مسيرة مهيبة في اتجاه المقبرة الجماعية لشهداء (صبرا وشاتيلا) كي نحفر في ذاكراتنا وذاكرة الاجيال القادمة حقيقة المأساة فنحفظ للشهداء كرامتهم وحرمتهم ولنضرب موعدا مع الزمن ليوم تتم فيه ملاحقة كل مجرم ارتكب او شارك في جريمة ابادة شعبنا. واخترنا التاسع من ابريل موعدا لهذه المسيرة احياء لذكرى مجزرة دير ياسين سنة 1948 دون ان ننسى شهداء هذا الشهر من اعلام الثورة الفلسطينية محمد يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان الذين اغتالتهم اسرائيل في قلب بيروت في ابريل 1973 وقائد الانتفاضة وراعيها الشهيد القديس (ابو جهاد) الذي لحقت به اسرائيل حتى تونس واغتالته في ابريل 1988. في تلك الليلة بالذات فوجئنا بوزير السلطة الفلسطينية للاتصالات الدولية الدكتور نبيل شعث يطل علينا من شاشة التلفزيون ليعلن على الملأ براءة اسرائيل من دم الشهيد محيي الدين الشريف واتهام رفاقه في (حماس) بانهم هم الذين قتلوه! وما ان غابت صورته البهية عن الشاشة حتى اطل علينا نتانياهو بأوداج منفرجة ليفاخر اولا بصدقيته عندما اعلن ان لا علاقة لاسرائيل باغتيال الشريف وليعزز ثانيا, نظريته بأن السلطة الفلسطينية قادرة على مكافحة الارهاب عندما تريد ذلك! تركنا الدمع والشمع المذاب, ورحنا نتطلع ونحدق في وجوه بعضنا البعض وكأننا ندقق في دخائلنا ونتساءل عن مستقبل (موتنا) واين سيتم تصنيفنا عندما نقضي في خانة الشهداء الذين سقطوا بأيدي العدو ام صرعى على ايدي رفاقنا كي لا تغضب اسرائيل فتوقف مفاوضاتها معنا وتتعثر مسيرة (السلام) ! فهنيئا لاجهزة الثورة الفلسطينية الامنية لاعلى كفاءتها وسرعة حركتها في كشف ملابسات قضية استشهاد (مصرع!) محيي الدين الشريف وحسب, بل وعلى تفوقها في ايجاد المخرج الذي لا مخرج غيره من مأزق مزدوج للسلطة ولاسرائيل في آن واحد. والحي اهم من الميت, والتسوية اهم من اي اعتبار ولو كان دم شهيد!! وياليت هذه الاجهزة بعد ان اثبتت جدارتها على هذا المستوى الرفيع ان تعير ولو جزءا يسيرا من جهدها لكشف ملابسات القتل التي تمت في بعض سراديبها اثناء التحقيق وانتزاع الاعترافات او لكشف الغطاء عن ملابسات مذبحة المسجد في غزة التي ارتكبت قبل اربع سنوات في 18/11/1994 وذهب ضحيتها العشرات من المواطنين! على كل حال, وبعيدا عن مشاعر الغضب او الحزن التي لا يجوز لنا السماح بأن تسيطر على نفوسنا رفضنا لمخططات العدو فاننا نطرح على اصحاب القرار في السلطة الفلسطينية السؤال الموضوعي التالي: حتى لو سلمنا جدلا بان اسرائيل بريئة من دم الشريف اين هي المصلحة الوطنية للسلطة في تقديم شهادة اجهزتها لصالح هذه التبرئة؟ لقد بادرت حماس منذ اللحظة الاولى لارتكاب هذه الجريمة الى القاء التهمة على اجهزة العدو الاسرائيلي دون اي فريق آخر على الرغم مما لدى البعض من مسؤوليها من شكوك حول الاختراقات الاسرائيلية داخل الاجهزة الامنية الفلسطينية فليس سرا على احد في ارضنا المحتلة ان اسرائيل لم تقنع فقط بالتعاون الامني الرسمي مع السلطة واجهزتها فجندت لحسابها عددا من العاملين في هذه الاجهزة ليقوموا بموافاتها بكل صغيرة وكبيرة عما يحدث داخل (البيت الفلسطيني) وعلى اعلى المستويات. ولقد قال لي احد المسؤولين في السلطة ان (ابوعمار) نفسه يعرف ذلك ويشكو منه اشد الشكوى بدليل انه قال لهذا المسؤول بالذات ما يشيب له شعر الرأس!! طبعا لمن على رأسه شعر!! اذن حماس, حاولت من جهتها ان تنزع الصاعق من اللغم منذ البداية وحرصت على ابقاء تناقضها مع العدو وفوق كل التناقضات, ,هذا ليس بغريب على حماس, على الاقل منذ خروج الشيخ احمد ياسين من السجن ,وصياغته لمعادلة التعامل مع السلطة ورفضه الانسياق الى الاشتباك معها حتى لو اعتدت على حماس وكوادرها وصولا الى القتل. لقد قال: (حتى لو قاتلونا فلن نقاتلهم) واكد هذا الموقف في آخر تصريح ادلى به (للحياة) قبل اسابيع من مستشفى الملك خالد في جدة. ولا يشك عاقل وحر في السلطة الفلسطينية ان في موقف حماس هذا ما هو خير للجميع, وللسلطة قبل غيرها, بل وللمصلحة الوطنية العليا. ولا يشك عاقل وحر في السلطة وخارجها بأن اسرائيل لم تكن مرتاحة على الاطلاق لمثل هذا الموقف من حماس لانه يدمر حلمها المستمر في اقامة الفتنة واشعال الحرب الاهلية بين الفلسطينيين. ولذلك كان من الطبيعي, على امتداد العام المنصرم كله, ان تضاعف من ضغوطها على السلطة لضرب البنى التحتية لحماس واقفال مراكزها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بهدف تأزيم الوضع بايصال الفريقين الى نقطة التصادم. واذا كان اصحاب القرار في السلطة يظنون ان هذه هى آخر (الفواتير) التي ستطالب اسرائيل بها, فانهم لاشك واهمون, لان النهج الشيلوكي في التعامل اليهودي مسألة مبدأ ثابت لا يتغير. ومن هنا نرجو ان يتسع صدر الاخوة في السلطة لمقارنة بينهم وبين سلطة (جيش لبنان الجنوبي) في لبنان الذي كنا نربأ بأنفسنا على تشبيههم بهم. ان اللحديين رغم ارتباطهم المباشر كعملاء باسرائيل وتصرفهم وكأنهم كتيبة في الجيش الاسرائيلي لم يستطيعوا على امتداد عشرين سنة ان يؤدوا المطلوب منهم اسرائيليا في الارض اللبنانية المحتلة رغم كل ما بذلوه من جهود واتخذوه من مواقف حرقت جسورهم مع الوطن الام. ان صمود المقاومة الاسلامية وحسن ادارتها للعملية الصراعية بشكل ثوري سليم اضطر اسرائيل في نهاية المطاف الى طلب الخلاص والانسحاب من دون قيد او شرط. والعبرة ليست هنا, وانما بالسرعة واللامبالاة التي اعربت فيها اسرائيل عن مواقفها ممن وقفوا الى جانبها وقضوا العمر في (مكافحة الارهاب) نيابة عنها, فحكومة نتانياهو رفضت حتى الان منح اللجوء السياسي لرموز هذا الجيش. فاسرائيل تعرف كيف تأخذ ولكن (العطاء) كلمة غير موجودة في قاموسها ولعله تجدر الاشارة لتذكير اخوتنا في السلطة عما آل اليه مصير بعض المتعاونين السابقين مع العدو قبل اوسلو وكيف رفض اهلنا فلسطينيو 1948 ان يتركوهم يقيمون بينهم!! ثم, ألم يخطر على اصحاب القرار في السلطة عندما اقدموا على مثل هذه الخطوة المفجعة ما سيكون عليه رد الفعل لدى جماهير شعب فلسطين داخل الارض المحتلة وخارجها؟أو لم يفكروا بآلاف المعتقلين الذين لا يزالون في سجون العدو من ابناء فتح وحماس وكافة قوى المقاومة الفلسطينية وعن خيبة هؤلاء في قيادة تنكرت للشعارات التي علمتهم اياها والتي من اجلها هم الآن قيد الاعتقال منذ عشرات السنين!! مع ذلك, وبالرغم من ذلك فاننا ندعو اخوتنا في حماس وجماهير شعبنا المفجوعة ان تتحلى بالصبر والا تترك الفتيل يقترب بشرره من اللغم الموقوت, والذي اطلقت عليه ذات يوم (البند السري) في اتفاقية اوسلو... أي الاقتتال الاهلي. ولكن, وفي الوقت نفسه ندعو اصحاب القرار في السلطة الفلسطينية الى صحوة من غيبوبتهم العقلية في التعامل مع العدو والى يقظة ضميرية في التعامل مع شعبها. وليتذكر هؤلاء ان يحيى عياش ومحيي الدين الشريف وغيرهم ممن سيسقطون في ساحة المقاومة ضد الاحتلال هم بعض من كنا نعتز بهم ايام الانتفاضة انهم (اطفال الحجارة) الذين تصدوا لجيش الاحتلال يوم عز ذلك على الرجال. ومحيي الدين الشريف ,واحد من هؤلاء... وكلهم شرفاء. فهل هذا هو مصير اطفال الحجارة عندما يكبرون!!

Email