انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان... لماذا لا ؟! بقلم ـ الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد لا يوافق الكثيرون في غمرة الأجواء العربية السائدة على قبول فكرة الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان, او قد يضعون تبريرات كثيرة لرفض الفكرة وتحديداً من زاوية الطرح الاسرائيلي لها , وهناك العديد من النقاط الوجيهة التي تستخدم في الدفاع عن وجهة النظر تلك, ولكنني أدفع للقبول بالعرض الاسرائيلي بعد التأكد من تفاصيله لسبب وجيه هو إنقاذ الجنوب اللبناني من الاحتلال, وانقاذ مواطنيه من الإذلال اليومي والقتل الجمعي, وإنقاذ لبنان وهو دولة عربية من وضع لا يحسد عليه ان بقي الحال على ما هو عليه. والدلائل الموجبة لتحبيذ القبول بالانسحاب من لبنان عديدة, منها الذاتي اللبناني ومنها الموضوعي العربي. من الدلائل الذاتية ان لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي لم يدخل حربا منظمة من الحروب العربية التي خاضتها الدول العربية المحيطة بإسرائيل, فالحروب الثلاثة في سنوات 48 و56 و73 لم يكن لبنان طرفاً مباشراً فيها, ولبنان عدا اتفاقية الهدنة التي وقعها مع اسرائيل مثله مثل البلدان العربية المحيطة, لم يكن في تجابه عسكري نشط مع اسرائيل قبل الاحتلال الاسرائيلي له في مطلع الثمانينات. لبنان بلد تعددي وليس كل اللبنانيين على وفاق مع الموقف العربي الذي تقفه البلاد العربية الأكبر, خاصة تجاه الغرب ككل وتجاه اسرائيل, والمغامرة بزجه لتحمل أعباء أكبر من قدرته ورغبة أهله مجتمعين تقوده تلقائياً الى حرب أهلية او على الأقل الى عسر سياسي واقتصادي لا يطيقه عن رغبة. الحرب الأهلية التي ابتلي بها لبنان في عقدي السبعينات والثمانينات, والتي ادت ــ ضمن ما أدت اليه ــ الى سقوط العاصمة اللبنانية تحت المطرقة العسكرية الاسرائيلية مباشرة, حيث كانت اول عاصمة عربية تحتلها اسرائيل وتدفع في ذلك ضريبة باهظة وهذا من ضمن امور اخرى, دليل على هشاشة الوضع اللبناني العسكري والسياسي, حيث ان الايديولوجية العروبية التي خبرناها في الخمسين سنة الماضية في شكلها المناهض لعسكرية اسرائيل, قد تكون ملائمة لدولة متجانسة العناصر نسبياً, وليس لدولة متعددة الأعراق والطوائف كالدولة اللبنانية الحديثة, والتي كان من بين أسباب نشأتها عدم التورط المباشر في مشكلات العرب الكبيرة. عبدالناصر وعى هذا الأمر خاصة إبان سنوات الوحدة بين مصر وسوريا, فعند قربه من لبنان تعرف على الخصوصية اللبنانية وراعى حساسيتها, وإبان الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها هجر مئات الالاف من اللبنانيين وطنهم بسبب هذا الوضع الذي لم يرتضوه, وهو التدخل المباشر في شؤون وطنهم وزج اللبنانيين في أتون صراع مباشر ليس بالضرورة متفقا عليه من كل الطوائف اللبنانية. لبنان خدم التطور العربي خدمة جليلة, ثقافياً وسياسياً, وعدا عطاء الثقافة المرموق فإن لبنان كان مكان حل وترحال السياسيين العرب, فيه نشروا مذكراتهم وكثيرا ما سطروا فيه صفحات ندمهم المتأخر عن فهمهم الخاطىء ــ عندما كانوا في السلطة ــ للوضع اللبناني, كما كان لبنان ملاذا لكل اولئك المطاردين والحالمين العرب الذين لم تحتمل اوطانهم افعالهم او حتى أقوالهم أو أحلامهم, من اليمن جنوبا الى تونس شمالاً, حتى وقع لبنان تحت مظلة الصراع المباشر فقد دوره الثقافي والسياسي ولو الى حين. لم يدخل الاسرائيلي لبنان ولم يحتل عاصمته ولم يعزل شريطا منه نسميه محتلا حتى اليوم بسبب لبناني بحت, بل كان بسبب اكبر من لبنان, فلعلنا نتذكر أنه في السبعينات, وبعد صراع المنظمات الفلسطينية في الأردن ومن ثم خروجها منه, تخلص العرب من المشكلة الفلسطينية باقناع لبنان الرسمي او بعضه آنذاك أو حتى (إقناعه عن طريق الارغام) ان صح التعبير, بترك جزء من جنوبه للمعسكرات الفلسطينية, للتدريب وربما للقيام ببعض العمليات المضادة لاسرائيل وسميت تلك المنطقة وقتها بـ (أرض الفتح) وتفاقم الأمر لهذا السبب بعد ذلك, وبعد استشراء النفوذ الفلسطيني في أرض لبنان تكونت دولة داخل الدولة مما أدى الى إحداث شرخ في النسيج اللبناني ذي الألوان السياسية المختلفة وإلى ما عرف بصراع الإخوة الدموي والضروس, أو الحرب الأهلية اللبنانية وتمزق الداخل اللبناني الهش بهذه الحرب الأهلية غير المسبوقة في ضراوتها وتدخلت بعدها اسرائيل في أوائل الثمانينات بعد أن انهكت الحرب كل الأطراف, ولقد كان الاختلاف اللبناني وقتها هو اختلافاً على الدور الذي يمكن ان تقدمه الأرض اللبنانية ولبنان ككل في إدامة الصراع مع اسرائيل, ونفخ جذوة الصراع وإبقائها متقدة, وهو نفس الموضوع اليوم وإن اتخذ شكلاً وصوراً أخرى, ولم تستطع ان تقوم به لبنان وحدها آنذاك, ولا تستطيع أن تقوم به اليوم وحدها أيضاً, ومع تبدل الظروف فإن المهمة أصبحت أصعب وأكثر تعقيداً. قلت إن هناك مستويين للموضوع, أولهما ذاتي لبناني يدعو الى التفكير الجاد في الاقتراح الاسرائيلي للانسحاب من الجنوب اللبناني, شرحت جزءاً من أسبابه آنفاً. اما المستوى الثاني الخاص بالعرب, خاصة الدول المحيطة باسرائيل, فهو يأتي في ظل تغير الوضع العربي تجاه اسرائيل منذ كامب ديفيد, ولكنه تغير أكثر منذ اتفاقيتي اوسلو ووادي عربة, فقد قام الاردنيون بحل مشكلاتهم الحدودية0 والسياسية مع اسرائيل كما فهموها وكما سمحت به لهم الظروف, وقام الفلسطينيون باتفاق مع اسرائيل عن طريق اوسلو, وبصرف النظر عن تقييم البعض لهذه الاتفاقات سلبا او ايجابا, وبصرف النظر عما تحقق منها او لم يتحقق, فإن الفكرة السياسية الرئيسية ان المسارات العربية قد اختلفت باتجاه موضوع السلام مع اسرائيل, واهم من ذلك فقد حققت اسرائيل ما تريده, وايضا وافق العرب ــ او معظمهم ــ عليه, وهو قبول مبدأ المسارات المتعددة للسلام, وهو اتفاق اخذ العرب الى مدريد وما بعدها. واقع الامر امام هذا المشهد ان اي عرض يمكن ان يحقق المصالح اللبنانية ويفعل تطبيق قرار مجلس الامن 425 والقاضي بانسحاب اسرائيل الى الحدود الدولية اللبنانية مع ضمانات امنية من الجانبين هو للسياسي المعتدل قرار يجب الدفع به واقتناصه لمصلحة لبنان اولا ولمصلحة مبدأ الانسحاب من الاراضي المحتلة ثانيا. المراوحة حول هذا الموضوع ورفضه دون مسببات مقنعة للشارع العربي المستنير هو في حقيقة الامر استمرار للسياسات العربية الرافضة دون بديل مطروح لتحرير الارض وفي اعتقادي ان رفض انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان من اجل (رفض فصل المسارين السوري واللبناني) ليس بالسبب المقنع لرفض الانسحاب, فدمشق قادرة بما لها من موقف سياسي وكذلك من ثقل دولي على الساحة العالمية, على ان تحقق مفاوضات ناجحة مع اسرائيل ان رأت الظروف مناسبة, وفصل المسار اللبناني لن يزيد المفاوضات القادمة ضعفا بل قد يكسبها قوة. لذلك فإن المبادرة الحقيقية والشجاعة هي قبول مبدأ الانسحاب وتحقيق وافضل الشروط لذلك الانسحاب من الجنوب اللبناني, ولا اعتقد ان العرض الاسرائيلي الاخير بالانسحاب من الجنوب هو عرض جاء فقط لان المقاومة اللبنانية قد اجبرت الاسرائيلين على التفكير بهذا القرار, على اهمية ما تقوم به المقاومة وهناك وعظيم التضحيات التي يقدمها الشعب اللبناني الجنوبي, ولكن العرض جاء بجانب تلك الاسباب لاسباب اسرائيلية داخلية وخارجية تريد بها حكومة نتانياهو القول للداخل الاسرائيلي وللخارج ـ خاصة الراعي الامريكي ـ انها تريد السلام حقا لا قولا, ومراهنتها على ان العرب بسبب الموقف التاريخي المعروف عنهم سيلجأون الى اكثر من سبب وتبرير لرفض هذه المبادرة السياسية, وبالتالي فإن اللوم يعود عليهم دوليا, ويظهرون بمظهر من تريد دولة محتلة ان تنسحب من ارضيهم وهم في المقابل يمانعون او يترددون على اقل تقدير. ومن يعرف الواقع في الجنوب اللبناني يعرف هذه الحقائق القائمة على معاناة يومية وحياتية مريرة لاهل الجنوب, وهي حياة ضنك وعدم استقرار وابعد ما تكون عما تنقله الصور الصحفية للزعماء المحليين والتصريحات الصارخة لبعض القياديين في بيروت, وكلما قامت اسرائيل بغارات على الجنوب توجه المئات من ابنائه الى بيروت فتتلبك الحكومة اللبنانية وتغوص في المشكلات الحياتية لهؤلاء اكثر واكثر وان لبعض الوقت. الامر الواقع هو ان العمود الفقري والرئيسي للمقاومة الجنوبية يعتمد على تشكيلات حزب الله, وهي تشكيلات لا يمكن ان تستمر بشكلها الحالي من الفعالية والنشاط, دون دعم سوري ايراني, وربما دعم الاخيرة بشكل اكثف, وهو اعتماد سياسي قد تتفق اطرافه اليوم على مسارات محددة, ولكن ليس من المضمون ان يبقى هذا الاتفاق ساريا يخدم جميع الاطراف الى مالانهاية في ضوء المتغيرات الحادثة في ايران وهي متغيرات تفرضها مصالح الدولة الايرانية الشرعية, ولا تفرضها صراعات خارجية في مناطق اخرى مهما خدمت شعاراتها الدولة الايرانية لفترة من الزمن, وان تغيرت التحالفات والحسابات القائمة فإن القوة الذاتية في الجنوب اللبناني وفي لبنان عموما ليس لها قدرة على مواجهة القوة الاسرائيلية الكثيفة, وقد تظهر مكشوفة امام هذه القوة مما يضع احتمال تضييع المزيد من الارض اللبنانية امرا محتملا. القبول بالعرض الاسرائيلي ان كان جديا ومضمونا من الولايات المتحدة يقرب يوم الانسحاب من الجولان ولا يبعده, ويحقق في النهاية الانسحاب الكامل من الارض العربية المحتلة, ولا يبعده ويحقق في النهاية الانسحاب الكامل من الاراضي العربية المحتلة, وهو لا يمكن ان يكون مشروطا بانسحاب سوري مماثل من لبنان لان ذلك شأن عربي, ويمكن الحديث عنه بين الاطراف المعنية بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني لاقبله, ويفيد الانسحاب ان تحقق المسار الفلسطيني في هذه الظروف التي تدخل فيها المفاوضات الفلسطينية ــ الاسرائيلية احدى مراحلها الحاسمة. رفض البحث في اقتراح الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان هو عودة الى سياسات التصلب دون مبررات مقنعة وتفويت للفرصة على لبنان في ان يستعيد ارضه وعافيته السياسية والاقتصادية. وهي في النهاية عافية لازمة للراهن والمستقبل العربي على السواء. رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية*

Email