المسلمون بين قبول الصراع أو قبول الفناء!بقلم - د. يحيى هاشم حسن فرغل

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما أرسل الله للمسلمين في هذه الايام رجلا من قلعة العدو ليصرخ في وجوههم صرخة ( الصراع الحضاري) لا يقصد تنبيههم ــ وقد كان من المفترض ان يتنبهوا ــ ولكن ليعبىء قومه لهذا الصراع المحتوم في رأيه ورأي القطاع العريض من قومه على الاقل . وجدناهم بدلا من ان يأخذوا الامر بما يستحقه من جدية, ويعبئوا بلادهم لهذا الصراع بما يقتضيه, على جميع الاصعدة في المكان والزمان, والعلم والعمل والايمان. ... وجدناهم يتبارون في تكذيبه ــ مع انه لم ينتظر منهم تصديقا ــ وهما منهم انهم يرشون الماء على الحريق, وأخذوا في اظهار وداعة الحضارة الاسلامية البريئة براءة الحمل, والتي عشقت ــ في عصرنا ــ السلام, واغمدت الحسام, كأنهم يقدمون بذلك ــ في غفلة من لا يقصد ــ وثيقة النصر مبديا لدعاة الصراع, قبل ان يبدأ, وكفى الله العدو ــ على ايدينا ــ القتال. ان المرء ليعجب لمن تفجؤهم نداءات الصراع الحضاري كما عبر عنها اخيرا صموئيل هانتنجتون, وهذه المفاجأة ــ في تقديري ــ مصدرها الغفلة عن طبيعة عدو يبحث عن العداوة قبل ان تفرض عليه, وينشدها كأنها فيتامين الصحة والعافية, فهل يفيدنا نحن في شيء ان نخدر انفسنا بالكلام عن انسانية الحضارة, وسلام الحوار, بينما الطرف الآخر ينظر الينا والى الاسلام على وجه الخصوص على انه ظاهرة عرضت في مسار التاريخ, وهي في طريقها الى الزوال بفضل خطتهم الطويلة في ادارة الصراع؟ ليس امامنا نحن المسلمين في علاقتنا مع الغرب الا ان نختار: قبول الصراع, او قبول الفناء! انه لمن المسلم به ان فكرة الصراع في الغرب جزء من بنيتهم الثقافية قديما وحديثا, اما قديما ففي اعماق ثقافتهم هناك صراع الآلهة فوق جبال الأولمب, كما نجده في اساطير الالياذة والأوذيسة, وما جره هذا الصراع من صراع بشري بين اسبرطة واثينا, ثم هناك صراع الدولة الرومانية الطويل مع الدولة الفارسية, ثم صراع الدولة الرومانية مع الاسلام في حوض البحر الابيض على وجه الخصوص, وصراع المسيحية مع الاسلام في الاندلس, ثم في شمال افريقيا, ثم صراع المهاجرين الأوروبيين الى امريكا في عملية ابادة الهنود الحمر, وصراع القوميات الأوروبية, وزحف الاستعمار الحديث على الشرق, وصراع الدولة الروسية في ابادتها للمسلمين في حرب القوقاز, والبلقان والقرم...الخ. وتحتل فكرة الصراع موضع العقيدة في التكوين الثقافي للانسان الغربي المعاصر, فهذا الانسان قد يشك في كل شيء الا انه تبقى لديه فكرة الصراع راسخة لا تمس, بدءا بالصراع البيولوجي الذي اسسه دارون, ومرورا بالصراع الاجتماعي عند هربرت سبنسر, وانتهاء بصراع القوميات الذي عبر عنه نيتشة, وهم في ذلك كله ينظرون الى الصراع لا باعتباره شرا لابد منه, وانما باعتباره آلية التقدم في الطبيعة, والانسانية, والحضارة. ومن أغرب ما يقوله بعض المفكرين السلاميين لدينا كدليل على عدم قيام صراع بين الحضارتين, العريبة الاسلامية والغربية ــ وما هي الا أوهام المصارع الغربي صامويل هانتنجتون! ــ انه لا يتصور ان يكون بين الحضارتين صراع, حيث لا يوجد تكافؤ قوى بينهما, وما علينا الا ان نهدىء اعصاب المصارع الغربي الغضوب, الواقع تحت تأثير عوارض الساعة, وان نقفل الملف, بعد ان نبكت الذين صدقوه. وهذا الكلام اشبه بمن يلتقط صورة لمصارع بعد ان وقع على الارض منبطحا, ليدمغه بعدم التكافؤ, وليختزل الجولات في واحدة, ثم لينطلق بعد ذلك الى الزعم بعدم وجود مباراة. وبالطبع فإن المصارع أو المتوقع للنصر يتابع العمل ولا يلتفت لهذا الهراء, ويا ويل المنبطح لو أنه صدقه: اذ يضيع فرصة للنصر محتملة, ثم يتحول من منبطح الى طعام مأكول. هكذا يكون انكار الصراع بين الحضارتين ــ بدعوى عدم التكافؤ ــ طمسا لمراحل الصراع التاريخي التي استغرقها هذا الصراع في دورات متداولة طوال قرون, واسهاما ــ من الناحية الموضوعية ــ في نتيجة الصراع لحساب الحضارة الغربية. إن عدم التكافؤ في احدى دورات الصراع لا يعني نفي الصراع كرؤية حضارية تاريخية كبرى, اللهم الا ان يكون المقصود تحويل المواقف من مفاعلة الصراع, الى انفعال الصراع!! في كفة المغلوب!! وهي دعوة اذن الى استسلام كريه, يتنكر لتاريخ الحضارة, ولا يحسب في تاريخ الوعي! فأيهما نختار؟ ان تاريخنا الاسلامي مع أوروبا حافل بأمثلة لدورات الصراع, كما ان حاضرنا معها صارخ بمعاركها, ولكننا نحن الذين بأيدينا نجري لأنفسنا غسيل المخ, بحيث لا نتذكر التاريخ, ولا نعي الحاضر. يكفي ان نذكر ما حدث في الحروب الصليبية. وما هي الا دماء مسفوحة في قدس الذاتية الحضارية: يقول المؤرخ الأوروبي (ميشو) في كتابه تاريخ الحروب الصليبية: ان الصليبيين لما جاءوا الى المعرة بالشام قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين, اللاجئين الى الجوامع, المختبئين في السراديب, وأهلكوا صبرا ما يزيد على مائة الف انسان في اكثر الروايات. فما هي الصورة المقابلة لهذه الهمجية؟ ما الذي كانت تمليه الذاتية الاسلامية على صلاح الدين عندما استرجع القدس؟ (كان في القدس لما استرجعها صلاح الدين عام 583 هــ من الصليبيين مائة الف. منهم ستين الف راجل وفارس. سوى من تبعهم من النساء والاطفال. فأبقى صلاح الدين على حياتهم, واستوصى بهم خيرا واكتفى بأن ضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير وعلى كل امرأة خمسة, وعلى كل طفل دينارين ورخص للبطريرك الاكبر ان يسير آمنا بأموال البيع, وذخائر الجوامع التي كان غنمها الصليبيون في فتوحهم!!). تلك في ميزان الذاتية أمة الكذب والنفاق, وهذ امة الصدق والهداية. وتلك محض لقطة!! وماذا حدث للموريسكيين ــ وهم المسلمون الذين تنصروا في عملية تصفية الاسلام في الاندلس ــ من سحق للذاتية الثقافية فضلا عما تم فيهم من سحق عسكري وسياسي واجتماعي: (يحظر على الموريسكيين استخدام الملابس العربية التقليدية, ويرغمون على ارتداء الملابس على النمط الاسباني, كما يمنع الموريسكيون من ارتداء الملابس الحريرية والملابس الفاخرة). هكذا جاء في المرسوم الذي اصدرته الملكة جوليانا (1479 ــ 1555). ــ مرسوم خاص بالذبائح: يمنع الموريسكيون من ذبح الحيوانات على الطريقة الاسلامية ويفرض ان يذبحها جزار مسيحي من اصل اسباني قديم, ويجب ان تحمل الى المسلخ. ــ مرسوم خاص بالزواج: يلزم الموريسكيون بالزواج على الطريقة المسيحية. كما يجب على كل منصر ان يتزوج نصرانية اصلا, ويفترض على كل موريسكية منصرة ان تتزوج من نصراني اصلا. ــ مرسوم خاص بالزيارات: يرغم الموريسكيون المقيمون خارج غرناطة الذين نصروا قسرا, على عدم زيارة الموريسكيين المقيمين في مملكة غرناطة, خشية ان يتآمروا معهم, فيشعلوا الثورات بتقويتهم, وتأثرهم, وتحالفهم معا, ويهدد من لا يتقيد بذلك بأقصى العقوبات من مصادرة الممتلكات والموت حرقا. ــ مرسوم خاص ببيع العقارات غير المنقولة: لا يجوز لأي موريسكي بيع ممتلكاته لأي موريسكي آخر. ومراسيم اخرى خاصة بمنع الكتب العربية, ومنع الاسلحة ومنع الارث على الطريقة الاسلامية ومنع التعاون مع مسلمي شمال افريقيا, ومنع الهرب من مملكة غرناطة, ومن يهرب يحرم من ممتلكاته منها, فإن عاد اليها, قبض عليه, وبيع بيع العبيد بالمزايدة, ومنع ممارسة الشعائر الاسلامية والملتحقين بالثوار. واذا تبين ان موريسيكيا منصرا مارس بعض الشعائر الاسلامية, فيجب على السلطات والنبلاء ان تصدر بحقه اشد العقوبات التي تصل الى مصادرة الممتلكات, وكذلك اذا التحق بالثوار المعتصمين في رؤوس الجبال. على هذا النحو مضت السياسة الاسبانية في غيها ونقمتها واضطهادها للمسلمين بمختلف الوسائل الى ان تم تنصير اعداد كبيرة منهم قسرا تحت رهبة الاحكام الشنيعة التي كانت تقوم بها محاكم التفتيش وينفذها رجالات الاكليروس, فكان الموريسكي يضطر الى اعتناق النصرانية ولو ظاهرا, هربا من الثبور والويلات التي كانت تصب جامها على رأس كل متمسك بدينه أو عروبته. وازدادت سرية الممارسة للشعائر الاسلامية, فغدا الموريسكيون يحذرون اشد الحذر حتى من ابنائهم لأن اولئك الابناء كانوا يربون في ظلال الكنائس والاديرة على الدين المسيحي, خاصة المذهب الكاثوليكي ثم يردون الى اسرهم, عيونا تشي لمصلحة محاكم التفتيش للقضاء عليهم, وقد كانت محاكم التفتيش أو بالأحرى محارقها تلتهم الكثير من الموريسكيين الابرياء, لأقل الشبه والوشايات. أستاذ العقيدة بقسم الدراسات الإسلامية جامعة الامارات

Email