من احتلال الارض الى احتكار الكلمات، بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ومن عجب أن تقرأ, حتى في الادبيات الامريكية السيارة تلك الدعوى الغريبة ــ الى حد الشذوذ ــ التي ترفعها حاليا الاوساط اليهودية في امريكا وربما في مواقع شتى من العالم. وهي دعوى تقول في اختصار شديد ــ نريد ان نحتكر مصطلحات وتعابير والفاظا بعينها من قاموس الكلمات التي يستخدمها خلق الله تعبيرا عن أفكار يرونها او أوضاع وظروف يحددونها . بمعنى ان يختص اليهود, وحدهم دون الناس جميعا بعدد من الكلمات او المصطلحات لا تصدق الا عليهم ولا يعرفها الناس ــ المتكلمون والكاتبون والقارئون ــ الا من خلالهم أرأيت أي جرأة اكثر جسارة وصفاقة من هذا السلوك؟ لم يكفهم ان احتلوا فيما مضى دوائر البنوك والاستثمار ومن قبلها أنشطة الربا والرهونات والاحتكارات الرأسمالية..؟ ألم يكفهم ان احتكروا منذ عشرينات هذا القرن مواقع الدعوة والقيادة في التنظيمات الشيوعية في روسيا وفي خارجها, وبالذات في منطقة المشرق العربي مصر والشام على وجه الخصوص وكانت الدعوة من العشرينات الى الاربعينات تقصد عند قادتها اليهود على الاقل الى تشجيع النضال الوطني وقطع الطريق, بدعوى الأمية, على التآزر القومي العروبي, ناهيك عن ايديولوجيات الإلحاد. وقرنوا بينها ــ بسوء القصد ــ وبين التقدمية والاستنارة وكان ان ضاعت على وطن أمتنا سنوات, وربما أجيال, كان يمكن فيها استثمار قوة العقيدة الدافعة لدعم الغايات الوطنية في الاستقلال والاهداف الاجتماعية في العدل والكفاية والتنمية فضلا عن الطموحات القومية الى التكامل او الوحدة على صعيد الوطن العربي الكبير. ثم ألم يكفهم احتلالهم الذي دام خمسين عاما لقطعة من الارض العربية في فلسطين باتوا يهددون منها, وقد هددوا كل ما ترنو اليه هذه الأمة من أمل الحرية والتقدم الاقتصادي والتطور التكنولوجي والمنعة الانمائية والعسكرية؟ لم يكفهم هذا كله. وهاهم, كما اسلفنا في صدر الحديث ــ يطالبون في صفاقة يحسدون أو لا يحسدون عليها ــ باحتكار ألفاظ بعينها في القاموس على اختلاف اللغات والاستخدامات والمرامي والتوجهات. حلال عليهم حرام على الآخرين وأصل الحكاية هو الدعوات التي تبنتها قيادات اليهود في امريكا واشارت اليها في دراسة نشرت في شهر مارس الماضي ويطالب فيها اليهود باتخاذ ما يلزم من ترتيبات تحتكر لليهود دون غيرهم استخدام الألفاظ والمصطلحات التالية: هولوكوست. اكسورس. دياسبورا. يومها قال قائلهم ان المرفوض ان يقال مثلا ان مسلمي البوسنة يتعرضون الى هولوكوست (محرقة اضطهاد) جديد على ايدي غاصبيهم من الصرب المتعصبين الذين يمارسون ضد مسلمي البلقان أبشع ألوان التنكيل تحت شعار التطهير العرقي. ومن عجب ان الكلمة في اصلها اليوناني مكونة من المقطعين (هولو) بمعنى الكل أو الشامل وكاوستوس بمعنى النار وقد انحدرت من اليونانية عبر اللاتينية الى الفرنسية والانجليزية القديمة في العصور الوسطى وقد حملت في تطورها هذا, معاني التضحية بالنار, ثم توسعت الى معاني التضحية أو المعاناة بالجملة او في اطار الشمول بالنار أو بغيرها.. واذا كان من الصحيح انها استخدمت لتشير الى معاناة اليهود في معسكرات لتجميع ــ الاعتقال في العصر النازي ابان الحرب العالمية الاخيرة, الا ان قاموس اكسفورد وهو عمدة المراجع اللغوية الانجليزية يحرص في احدث طبعاته على ان يثبت ان تلك المعسكرات النازية ضمت اليهود كما ضمت ــ ايضا ــ غير اليهود (مادة هو لوكوست ــ صفحة 1249). ويمضي القاموس ليقول ان هولوكوست وقد نسميها محرقة بدأت تنسحب على اغراض وحالات اخرى فقد قالوا ــ اثناء الحرب العالمية نفسها ــ هولوكوست القصف الذي تعرضت له مدينة برمنجهام البريطانية ثم استخدموا ولعلهم لا يزالون ــ مصطلح الهولوكست النووي تحذيرا من احتمالات تفجر الصراع بين الدول من اعضاء نادي القنابل الذرية والعياذ بالله. ابحث عن التنميط لكن هاهم اليهود يرفضون إلا ان تصدق كلمة هولو كوست عليهم دون غيرهم من عباد الله مع تحريمها على سائر الافراد والشعوب. ولعلهم في هذا يلجأون الى ما يلجأ اليه الاعلام المغرض الخبيث من وسائل التنميط واساليب تجميد الاوضاع وتثبيت المفاهيم مصبوبة في قوالب لفظية جامدة كيما تخلق صورا نمطية منطبعة (ستريوتايب) في اذهان الناس وعلى كل لون كما قد نقول: * لون في صالح اليهود ـ الصهاينة داخل اسرائيل وخارجها ـ يطلق كلمة هولوكوست مثل قذيفة نارية فاذا بها تستحضر في ذهن البشر فورا وبغير شروح او مقدمات ما يقال عن محارق اليهود في معسكرات النازي وما تستدعيه هذه الصورة النمطية الجامدة المنطبعة من مقولات الاضطهاد وبعدها عن سخى التعويضات التي ظل اليهود يحلبونها من خزائن المانيا ومؤخرا من خزائن سويسرا مستخدمين في هذا اساليب الابتزاز الفكري والارهاب المعنوي والتشهير او التفضيح الاعلامي. وقد لا يتورعون عن اللجوء الى لعبة الوهم في السينما وهي تخييل في تخييل في التحليل الاخير (تأمل سلسلة الافلام الامريكية بالذات عن التي صنعوها عن الحرب الاخيرة وصورت الالمان وحوشا متعطشة للدم ـ اليهودي بالذات واخر حلقاتها كما تعلم كان فيلم (قائمة شندلر) الذي حصدوا من اجله بمنطق الاحتكار وليس غيره ـ معظم جوائز الاوسكار في العام الماضي. وهم لا يتورعون ايضا عن ان ينصبوا محرقة ـ هولوكوست فكريا واعلاميا لمفكر رصين في الثمانين اسمه روجيه جارودي عندما تجاسر على مناقشة دعاوى الهولوكوست ومدى مصداقيتها ولم يكن الرجل ليقصد الى رفضها الا بقدر ما كان رائده وضع الامر في نصابه وطرح الحقائق في احجامها الطبيعية والموضوعية وكذلك فعلوا مع اكبر رجال الدين في فرنسا ومن قبله مع باحث فرنسي سحبوا منه درجة الدكتوراه عندما تجاسر الرجلان المسؤول الديني والباحث الاكاديمي على ان يطرحا السؤال بديهيا وشرفيا: ـ حسنا ـ فأين الحقيقة, وما هي الارقام والابعاد الموضوعية لما حدث من ظاهرة او فلنقل جريمة الهولوكوست, ومن كان مرتكبوها, ومن ثم ضحاياها الحقيقيون؟ الشتات لليهود فقط ثم تنتقل دعاوى الاحتكار اليهودي الى كلمة (ديا سبورا) وهي بمعنى الشتات والتشرد والتفرق أيدي سبا ـ كما يقول التعبير التراثي العربي ـ في فجاج الارض. ومرة اخرى فالاصل الاغريقي للكلمة يفيد معنى البذور المنثورة في ارجاء المكان اي معنى الانتشار ولعله المعنى الذي قصدت التوراة الى استخدامه في سفر (تثنية الاشتراع) للدلالة على انتشار اليهود بين صفوف الاقوام والشعوب غير اليهودية. وقد اصطلح الناس على ان يستخدموا الكلمة لتصدق على اي معنى يفيد بالتيه والتفرق والشتات حيث تخذف جريدة الاوبزرفر الانجليزية مثلا عن المجاعة والدياسبورا التي تعرضت لها الجماعات الايرلندية المبغضة لبريطانيا, وحيث قد تجتاز في المحيط العربي محللين او كاتبين او اكاديميين استخدام تعبير الدياسبورا الفلسطينية بمعنى حالة الشتات التي تعرض لها الشعب العربي الفلسطيني اذ اضطرته عصابات وعمليات الارهاب الصهيوني المنظم والمسلح بعد نكبة 1948 الى الخروج من ارضه وفرضت عليه عبر السنوات الخمسين الاخيرة من هذا القرن حياة اللجوء في المخيمات او حياة التفرق بين شعوب عربية او غير عربية. ها هم يرفضون اي حديث عن الدياسبوا ــ الشتات الا ان يصدق على الشتات اليهودي الذي بدأ بعد واقعة الأسر البابلي التي يقول التاريخ انهم تعرضوا لها سنة 586 قبل الميلاد او نحوها وهم يرفضون بالذات اي حديث عن عبارة (شتات فلسطيني) وقد يعمدون لحظتها الى تحسس مسدساتهم في مواقع الاستيطان الصهيوني الراهنة باعتبار ان العبارة تحمل معنى شعب له هويته الوطنية المحددة وله افتخاره القومي العروبي المتميز تاريخا وواقعا فضلا عن كونه مغتربا عن ارضه ووطنه ما بين مخيم اللجوء او مركز انعدام الجنسية او استعادة جواز السفر. و.. الاكسورس ايضا ولقد يرقب الناس اية حركة نزوح جماعي ذات اعداد كثيفة تخرج فيها جموع البشر تحت طائلة الفزع خائفة تترقب بل قد تخرج بحثا عن الافضل طامحة تتلهف والناس يطلقون على هذا الوضع اسم (اكسورس) بمعنى الخروج الكثيف الواسع النطاق او النزوح الجماعي لاعداد ضخمة من البشر صحيح ان الاسم اكسورس يحمل بداهة معنى الخروج بقصد الإرتحال حيث يشتق من الاصل اليوناني كودوس بمعنى الطريق, لكن من الذي منح اليهود الحق في امتلاك ما تنطق به ألسنة البشر وما يرد على أسنة اقلامهم من الفاظ وكلمات ومسميات؟ مع ذلك فالدعوة الامريكية التي اشرنا اليها تقول بضرورة ان يقتصر استخدام كلمة (اكسورس) الخروج او النزوح على اليهود فقط وليس غيرهم, فإن احتجت الى وصف نزوح ملايين التعساء في غابات رواندا او نزوح لاجئي القوارب في جنوب شرقي آسيا.. فالتمس ألفاظاً اخرى وابحث لك, واجهد نفسك في البحث عن مصطلحات جديدة بعيدا بعيدا عن تلك التي فرضت عليها الوصاية اليهودية وكأنهم اصطفوا لانفسهم صفحات من قواميس البشر لا يمسها غيرهم.. واذا كانوا يتصورون انفسهم ــ وهما وغرورا ــ شعب الله المختار, فهم يعمدون الى توسيع نطاق هذا الوهم الجائر المغرور ليشمل ايضاً لغة او الفاظاً ومفاهيم مختارة بدورها لا يقربها غيرهم من الجنتايل او الجوييم, الذين ليسوا مختارين ولا ممتازين او متميزين!. هاجس الأمن وخوف المستقبل بيد اننا نرى في هذا الغرور الممضي في الصفاقة او الحماقة او في انتفاخ الصلف او تورم الذات نرى فيه احساساً كامناً تحت السطح بهاجس القلق وانعدام الأمن النفسي أو فلنقل السكينة التاريخية عند قادة اليهود ومن والاهم من كاتبين او دعاة او اعلاميين او اكاديميين. ست نقاط اساسية ان الرصد الموضوعي لهذه الظاهرة المستترة او الكامنة تحت السطح يفيد بعدة ظواهر يكمن استشرافها ومن ثم تلخيصها في النقاط الست التالية: 1ــ ان يهود امريكا ــ وهم السند الاساسي لاسرائيل كيانا وسياسة ومستقبلاً ــ باتوا يشعرون بالقلق, لا إزاء مستقبلهم او مدى قوتهم او ازدهارهم الاقتصادي, بل هو قلق على وجودهم, مجرد وجودهم من الأساس. وغير بعيد تلك الدراسات التي اشرنا اليها في مقال نشرناه في هذا المكان منذ شهور وكانت تحمل عنواناً يقول :(هل يتلاشى يهود امريكا؟) ولا يتعلق الامر بمجرد هواجس او سيناريوهات مستقبلية متشائمة بل هو امر احصاءات قدمها اختصاصيون يهود في أمريكا تحذر من انصهار الأقلية اليهودية في البحر الديمغرافي المضطرم لسكان الولايات المتحدة الى حد ان يأتي الربع الاول من القرن المقبل فلا تعدو نسبة اليهود سوى اثنين في المائة تزيد أو تقل من الشعب الامريكي بما يفقدهم ــ كما يقول زعماؤهم ــ (الكتلة الحرجة) التي يستندون اليها في ممارسة نفوذ أوسع نطاقا وأنجع تأثيرا في مجريات السياسة الأمريكية. 2ــ نفس الهاجس الديمغرافي اذ ينتقل عبر مياه الاطلسي والبحر المتوسط, يراود بغير مراء القيادات الاسرائيلية ازاء المحيط - وليس البحر - الديمغرافي العربي في المشرق والمغرب - واسرائيل لاتكاد تمثل سوى جزيرة معزولة, أو ينبغي أن تظل كذلك وسط موجاته العاتية التي لاتسكن يوماً ولا تميل الى هدوء. 3ــ لقد حاول الكيان الصهيوني ان يفرض التطبيع بسلاح جيش الدفاع وحاول ايضا ان يفرض التطبيع, بالتطبيع وسط شعارات, بل نقول أوهام السلام, ونستطيع أن نقول انه فشل في الحالين وها هي النتيجة وزعماء هذا الكيان يدركونها جيداً ــ تقول ان أربع حروب وواقعة نكبة واغتصاب وحشود التسلح بأحدث تكنولوجيا العصر في مجال النزاع الدامي, فضلاً عن حقيقة الاستناد الى جنرالات أمريكا ومن قبلهم جنرالات انجلترا وفرنسا, ومن بعدهم جنرالات التخلف والتشرذم والصراعات الداخلية والتناحر الاقليمي وتجزئة الارادة وأوضاع الاستبداد ومصادرة الحريات ــ وكلها جنرالات متحالفون من داخل الواقع العربي مع أهداف اسرائيل ومشروعها الاستيطاني الاستعماري - كل هذا لم يفلح بعد في تنسيب أو تكييف اسرائيل داخل خريطة الوطن العربي رغم فرضها بالقوة والخديعة والعدوان من فوق هذه الخريطة. 4ــ ولن تمضي سنوات إلا وتفعل قوانين التوسع المحموم في اسرائيل فعلها أو أفاعيلها ومن ثم تستعر حرب المياه بين اسرائيل وجيرانها وتسفر التوسعية الصهيونية عن وجه الأطماع الشرسة في موارد الشرق العربي من المياه, ومن البديهي ان صراع المياه سيكون أشد الصراعات ضراوة لانه يمس شغاف الشغاف كما قد نقول كيان الحياة البشرية, وضروراتها, وهو صراع حياة أو موت بالمعنى الحرفي, وليس الاستعماري للعبارة, لا هو بحاجة إلى توعية سياسية ولا حشد معنوي, وبغير أن تغير اسرائيل سياساتها وتعيد النظر في مخططاتها فيومئذ لن ينفع تطبيع في سفارة ولا تنظير في كوبنهاجن 5 ــ ثم هناك البعد الفلسطيني داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة سواء بعد 48 او 67. وهو كيان متواصل الغليان يملك وعيا حادا بقضية اغتصاب الارض وسرقة الموارد ويتمتع بخصوبة ديمغرافية تعد من آليات المواجهة مع العدو الذي يكاد يتلامس معه في كل يوم. اما الاغتصاب الاقليمي الذي تعرضت له ارض هذا الشعب فليس اغتصابا لبقعة معزولة من اركان العالم شبه المجهولين, بل هي بقعة تشكل جزءا محوريا وحيويا وفي القلب كما هو بديهي من منطقة مازالت تشكل هلال الازمات سواء بحكم موقعها الحاكم استراتيجيا او بحكم تكوينها السكاني الحالم بثنائي الديمقراطية والتكنولوجيا متطلعا الى القرن الوشيك. 6 ــ وهناك ايضا التحدي الداخلي في الكيان الاسرائىلي ذاته هنا اجيال جديدة داخل اسرائيل لم يعد ينطلي عليها شعارات العيش تحت طائلة سيوف جيش الدفاع او التصرف بمنطق الجوع الشديد الى الامن المفتقد داخل مجتمع مستوطنين هو اقرب الى المعسكر الدائم او حاملة الطائرات البرية المستنفرة باستمرار بل هناك الصراعات الطبقية والفئوية والعرقية التي نبغي رصدها وهي تمارس تأثيراتها داخل مجتمع اسرائيل وتلك نتيجة ناجحة (حول التوسع) في المشروع الصهيوني فوق الارض العربية. ولقد كان الاتحاد السوفييتي يوما اسطورة خلب بريقها لب الكثيرين في طول العالم وعرضه وكانت اسرائيل يوما كذلك امام الغرب. لكن شأن كل اسطورة يأتي اليوم الذي يخبو فيه البريق وينصرف فيه الفرقاء الى شؤون الحياة العادية بحقائقها الباردة وواقعها الموضوعي وما جهود اليهود حاليا سوى محاولة للتمسك بالاسطورة ومحاولة للنفخ في الجذوة التي كانت في يوم من الايام. وهي محاولة للنفخ في الرماد. ويكفي انهم يحاولون اليوم ادامة الاسطورة من خلال السعي نحو احتكار مجموعة من الكلمات.

Email