أبجديات : بقلم: عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما حزمت أمتعتي البسيطة, ذات مساء مضى من مساءات اذار الجميلة, متوجهة الى واحدة من المدارات العربية القريبة التي طالما انشددت اليها لاسباب تنغرس في ذاكرة الوجدان أكثر مما تثور في ذاكرة الجمادات , في ذلك المساء, كنت احث المسافات كي اصل الى موعد ومكان الحفل الذي كانت ستحييه السيدة فيروز في البحرين. وعندما تفكر في هذه الايام بالقيام بسلوك ما, فان عليك بالمقابل ان تفكر كثيرا قبل ان تتورط في الاعلان عما تنوي القيام به, حيث عليك ان تقوم بعملية مسح كامل للمزاج العام, للثقافة السائدة, وللمفاهيم المنتشرة بين الناس, لماذا تفعل ذلك؟ او هل انت بحاجة فعلا لذلك؟ نعم انت بحاجة لكل ذلك, هذا اذا كنت تدقق كثيرا في موضوع رضا الناس عما تفعل, وترحيبهم بما يصدر عنك. اما اذا كنت بوهيميا او لامنتميا ـ كما يحلو للبعض ان يلقي بالاوصاف جزافا ـ فافعل ما أنت مقتنع به, واستمتع بأفكارك المجنونة لوحدك, وتحمل بعد ذلك ما قد يصوب اليك من طلقات وسهام. فمن يركب البحر لا يخشى من الغرق. في حياتنا الاجتماعية, متناقضات ومفارقات تكفي لملء مجلدات, وعلى قدر ما يتحدث الناس عن الحرية, والديمقراطية,والمسؤولية الذاتية, وعلى قدر كراهيتهم للوصاية, والفضول, والتدخل في شؤونهم وشؤون الاخرين الشخصية, ومبدأ لا ضرر ولا ضرار الذي ينادون به, الا ان هؤلاء الناس هم الاكثر اصرارا على الاطاحة بكل الديمقراطية والحرية ومبادىء المسؤولية الفردية.. الخ, وفي لمحة بصر بمجرد ان تفكر في الطيران بعيدا عنهم وخارج السرب الاحمق الذي يضحك معهم (من وجهة نظرك طبعا)! أن تشاهد فيلما سخيفا, ورديئا من حيث المستوى واللغة السينمائية وعقلية الاخراج والتحليل, فان ذلك أمر عادي جدا لدى كثير من الناس, وان يتهافت الكثيرون على حفل هابط (فنيا) تقيمه مطربة (ما) تفتقد أبسط قواعد الثقافة واللياقة البدنية والذوق في طريقة الحديث واللباس, ولا يخرج هذا الحفل - رغم ارتفاع أسعار التذاكر - عن كونه برنامج ما يطلبه المشاهدون, تكون فيه المطربة أراجوز الحفل لا أكثر, فان الناس تنظر إلى هذا النوع من الحفلات بمنظار الابهار والدهشة إلى الدرجة التي تثير أعصابك. فإذا فكرت بنقد هذا الواقع المتردي, فانك تعطي انطباعا عاما بانك متعال, ومتغطرس, وتظن بنفسك الافضلية والمفهومية والذوق... إلخ. وكذلك ان تذهب لحفلة عرس تحييها إحدى الفرق التي تصيبك بالغثيان عزفا وغناء وان تتابع برنامجا لجلسة فنية تضم مجموعة من الفنانين يفتقدون قواعد الاتيكيت المتعارف عليها, ويتناقشون في قضايا هي التفاهة بعينها. كل هذا يبدو عاديا بين الناس (ليس كلهم طبعا) ويشجعك الآخرون على التورط فيه لكي تصبح جزءا من هذا الردىء والفاسد والشحيح ذوقا وفنا, لكنك إذا أعلنت بأنك ذاهب لحضور حفل تحييه سيدة الغناء الأصيل والراقي فيروز, أو انك ذاهب لحضور فعاليات معرض كتاب أو معرض فن تشكيلي.. إلخ, فان ألف علامة تعجب ترتسم على الوجوه, وتكون الصاعقة إذا فاجأتهم بأنك مسافر إلى دولة أخرى لحضور هذه المناسبات. مأساة ان يصبح قدرك ممارسة الرداءة بمبدأ أهل روما, وان تجبر على فعل ما يفعلون. فهذا هو السبب الرئيسي لتدني مستوى الذائقة عندنا, وترسيخ الاعلام لهذه الرداءة سبب آخر لاستفحال الكارثة والهبوط للدرك الأسفل. وفي كل المجتمعات وعند كل الأمم هناك الرديء والجيد, ولكن في كل المجتمعات لا أحد يفرض على الآخرين أن يؤمن بقناعة (سيادة الهابط) وتجرعه تحت مبدأ (الحشر مع الناس عيد)

Email