سفاري كلينتون والرهان الإفريقي : بقلم الدكتور محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

قام الرئيس الامريكي في الأسابيع الماضية بزيارة فريدة من نوعها للقارة السمراء على رأس وفد هام يتكون من ما يزيد على 800 فرد أكثر من نصفهم يمثلون رجال الاعمال وممثلي كبريات الشركات الامريكية. الزيارة أسالت الكثير من الحبر وأثارت عدة تساؤلات. فتساءل البعض عن توقيتها والضغط النفسي الكبير الذي كان يعاني منه الرئيس كلينتون من جراء المشاكل الجنسية التي كان يتخبط وما زال يتخبط فيها. كما تساءل البعض عن إهمال أمريكا للقارة استعبدوا بالقهر والقوة للمساهمة في بناء أمريكا وايصالها الى ما هي عليه. كما تساءل آخرون عن التراجع الأوروبي عن القارة السمراء ومحاولة أمريكا ملء الفراغ والاستفادة من الثروات الهائلة التي تنعم بها إفريقيا وكذلك السبعمائة مليون نسمة من السكان الذين يمثلون سوقا ذهبية للمصانع والمنتوجات الأمريكية. فمن الناحية الاقتصادية والتجارية تمثل افريقيا معدنا ثميناً للشركات الامريكية. ما هي إذن دوافع الزيارة وما هي الخلفيات والرهانات؟ وهل جاء كلينتون لإفريقيا من أجل عيون الإفريقيين أم جاء من أجل أغراض أخرى؟ هل جاء من أجل المساعدة والعون ودفع عجلة التنمية الى الأمام أم جاء من أجل التجارة؟ التجارة أولى الأولويات: هل تقصد الزيارة المساعدة أم التجارة, والظاهر والمؤكد أن الإدارة الأمريكية فضلت الاختيار الثاني على الأول. لم تعد الظروف والإمكانيات تسمح للأمريكيين بالقيام بالمساعدة, هذا ما يقوله الأمريكيون, أما الأفارقة وخاصة جنوب افريقيا فإنها تتساءل عن حجم المساعدة التي تذهب لإسرائيل ومصر (أكثر من 2 مليار دولار) مثالاً مقارنة بالفتات الذي يوزع على خمسين دولة إفريقية (700 مليون دولار) إنه لمن الصعب جداً حل هذه المعادلة. من جهة اخرى يتخوف الأفارقة من أن التجارة مع أمريكا ستسير في اتجاه واحد وأن الشركات الأمريكية العملاقة ستأتي على الأخضر واليابس وتعمق التبعية وتركز على استغلال الثروات والمواد الأولية أكثر من تعزيز عملية الإنتاج والاعتماد على الذات. هذا الأمر ادى الى تحفظ الرئيس مانديلا على مشروع الشراكة والتجارة الذي يحاول كلينتون تسويقه للأفارقة. فالشراكة والتجارة تكون غير متكافئة في ظل التباين الشاسع والكبير بين الدول الإفريقية والشركات العملاقة الأمريكية. السؤال الذي يطرح نفسه عند الكلام عن النمو الاقتصادي والانطلاقة الجديدة للقارة السمراء هو هل هذه الدول جاهزة لهذه الانطلاقة التي يخطط لها الامريكيون حسب قناعاتهم ورؤاهم؟ ماذا عن البنية التحتية وعن مستلزمات التطور والتنمية؟ أمور إستراتيجية يبدو أن الأمريكيين تجاهلوها, ماذا عن المستلزمات السياسية, هل الأمن والاستقرار السياسي متوفرين؟ ماذا عن الحالة الصحية للديمقراطية في الدول الافريقية؟ افريقيا كما لا يخفى على احد مازالت تعيش ما قبل الحداثة وتعيش كذلك في كثير من ارجائها المرحلة الزراعية وفي المقابل نرى ان امريكا وأوروبا ودولاً اخرى كثيرة دخلت في عهد المجتمع المعلوماتي وتعيش العولمة بكل معالمها وخباياها, هذه المفارقات تؤدي لا محال الى مشاكل عضوية معقدة ومتداخلة قد تعرقل تماما الأحلام الامريكية في القارة السمراء. كسب الأفروأمريكيين: زيارة كلينتون لست دول افريقية ولمدة 11 يوما تكتسي اهمية كبيرة عند الــ 34 مليون أمريكي أسود. بهذه الزيارة يحاول الرئيس الامريكي رد الجميل لهؤلاء السود الأمريكيين الذين صوتوا له وساعدوه. فعلاقة كلينتون بنخبة الزنوج في امريكا علاقة طيبة حيث يوجد عدد لا يستهان به من المقربين اليه ومن المستشارين والمساعدين. فالزيارة تعني فتح صفحة جديدة مع القارة السمراء واقامة جسور المحبة والوئام بين القارتين وكذلك القضاء على الصور النمطية عن التخلف والهمجية وغيرها من الصور التي غرستها وسائل الاعلام الامريكية في عقول الامريكيين بما فيهم الزنوج. وتجدر الاشارة هنا الى ان الرئيس الامريكي قد اصطحب معه عدد لا يستهان به من اصحاب القرار السياسي وأصحاب النفوذ والمال من الزنوج الامريكيين في زيارته لافريقيا. فالرئيس الامريكي يراهن على مصالح بلاده مكتسبا الزنوج الامريكيين في مساعيه الاقتصادية في القارة بعد انهيار الشيوعية وضعف اداء السياسة الخارجية الفرنسية في مناطق نفوذها ومستعمراتها القديمة. الديمقراطية منفذ كلينتون الى القارة في زيارته الافريقية أولى الرئيس كلينتون انحيازا بارزا وصارخا نحو تلك الدول التي تبنت أو تتبنى الديمقراطية كما يبارك لها الأمريكيون. فباختياره دولا معينة واقصائه لدول اخري عديدة ابرز كلينتون انه يفضل التعامل مع تلك الدول التي تحترم وتنفذ توصيات صندوق النقد الدولي وتحترم مبدأ السوق الحر واحترام الملكية الفكرية وما الى ذلك. هذا التوجه مثالا يرفضه تماما الرئيس مانديلا وأن أي تحرك أمريكي تجاه محاولة السياسة الأبوية أو السيطرة والتحكم والهيمنة فإنه يرفض جملة وتفصيلا. وهذا ما أبرزه الرئيس مانديلا بطريقة دبلوماسية عندما صرح أمام الملأ وأمام كلينتون نفسه انه يعتز بصداقته ووفائه لأولئك الذين ساندوه أيام المحن والشدة وعلى رأسهم ليبيا وايران وكوبا. اختيار كلينتون للدول الست التي زارها يعني ان امريكا وعلى طريقتها الخاصة تشجع وتبارك للاختيارات والموضة الديمقراطية الجديدة في القارة السمراء وهذا بأمل انتشار هذه الموضة وان تتبع الدول المتبقية النهج السياسي الجديد. لكن لم يتساءل كلينتون ان مثل هذا الانحياز قد يؤدي الى تعنت بعض الدول وعزلهم عن عملية كسب القارة ومن هذه الدول نيجيريا التي تمتاز بوزن كبير في القارة السمراء. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل طوت القارة السمراء صفحة الانظمة العسكرية والانظمة الدكتاتورية واصبحت تمارس الديمقراطية؟ سؤال يجب ان يتمعن فيه الرئيس بيل كلينتون جيدا وهل نظام لوران ديزيزي كابيلا الذي حل محل الراحل موبوتو هو نظام ديمقراطي؟ أم ان كلينتون بحاجة الى انظمة افريقية تابعة خاضعة تحترم اتفاقيات (الجات) والملكية الفكرية وحقوق الانسان وكل ما يخدم مصالح الشركات المتعددة الجنسيات الامريكية. ما يهم كلينتون هو تسويق مبدأ الشراكة ليطبق نظرية الاحتواء و يضمن بقاء نظامه. المفاجآت: الاهتمام المفاجىء لامريكا بالقارة السمراء لم يكن اعتباطا او عفويا وانما جاء نتيجة عدة عوامل اهمها الاخطاء الكبيرة التي ارتكبتها بعض الدول الاوروبية وخاصة فرنسا ازاء القارة وكذلك امكانيات التجارة والاقتصاد التي تنعم بها القارة السمراء وخاصة احتياطات البترول في خليج غينيا والتي تم اكتشافها مؤخرا وكما لا يخفى على احد فالبترول اصبح في ايامنا هذه هو الذي يحرك الاقتصاد والسياسة والدبلوماسية والتحالفات وغيرها فما يهم كلينتون في القارة السمراء ليس ملايين الاطفال الذين يقبلون على العمل لتأمين لقمة العيش او ملايين البشر الذي يموتون من جراء الجوع والامراض والاوبئة انما ما يهم الامريكي هو ملء الفراغ واقتناص الفرص الذهبية التي توفرت بعد الاخطاء الفادحة للسياسة الفرنسية في المنطقة. فالامر ليس كما يتوقعه الامريكيون بسيط وسهل انما مشروع كلينتون للشراكة والتجارة بدلا من المساعدة والمعونة رفض جملة وتفصيلا من قبل مانديلا وغيره من المختصين الاقتصاديين الافارقة الذين يرون انه لا مجال للازدهار والتنمية في ظل تبادل وتعاون تجاري غير متكافىء مع امريكا. الرئيس الامريكي كان يظن انه يبيع الاوهام التي اتى بها بكل سهولة وبساطة للافارقة لكن واقع افريقيا غير ذلك حيث ان معظم دولها تتخبط في المديونية (200 مليار دولار) والمشاكل الاقتصادية وضعف البنية التحتية والبطالة وضعف القدرة الشرائية وتدني مستوى المعيشة الى غير ذلك. هذه المشاكل كلها لا تستطيع شراكة كلينتون ولا مطامحه التجارية ان تحلها لانها تحتاج في مجملها الى اجراءات وتغييرات جذرية صارمة. فرنسا وسفاري كلينتون حظيت جولة كلينتون في القارة السمراء بحذر و احتياط كبيرين من قبل الفرنسيين والاوروبيين على حدا سواء فمما لا شك فيه ان اي توسع امريكي في القارة السمراء سيكون على حساب فرنسا واوروبا, هذا بطبيعة الحال اذا تحقق. فالفرنسيون تداركوا الامر وقاموا بمراجعة سياستهم الخارجية ازاء الدول الافريقية كما تداركوا انهم ارتكبوا اخطاء فادحة في تعاملهم مع نزاع التوتسي والهوتو وانهم تهاونوا في التعامل مع ازمة زائير هذا ما أدى بهم في الآونة الاخيرة الى تفعيل منظمة الدول الفرانكوفونية وتعيين بطرس غالي على رأسها ـ السياسي المحنك والمنافس اللدود لامريكا والانجلوساكسونية بعد تنحية من على رأس الامم المتحدة بالاكراه ــ وكذلك مناقشة السياسة الافريقية في مجلس النواب وتنظيم ورشة عمل لتحديد المسؤوليات وتشخيص الاخطاء للقيام بالاجراءات اللازمة لتدارك الامور. هل ستكون زيارة كلينتون للقارة السمراء منعطفا جديدا في السياسة الخارجية الفرنسية للخروج من الفتور والتعلم من الاخطاء وانتهاج استراتيجية استرجاع المجد والعودة بقوة؟ ام ان السياسة الفرنسية في القارة السمراء لم يصبح لها مكان في عصر العولمة والقطبية الاحادية؟ او هل ستكون زيارة كلينتون انطلاقة افريقية جديدة للبحث عن الذات وفرض الوجود بعيدا عن التبعية والابوية.

Email