ضحايا العنصرية وجلادوها: بقلم- توجان فيصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد الحرب العالمية الثانية, قام في العالم نظامان عنصريان هما جنوب افريقيا (زمن حكومة التفرقة) واسرائيل, وهذا التصنيف لا ينبع من انحياز عربي, بل انه تصنيف المجتمع الدولي لهما. وجميعنا يعرف ويذكر الموقف الدولي من النظام العنصري في جنوب افريقيا, والذي تضمن اول مقاطعة شبه دولية, التزمت بها امريكا ذاتها, وخرقتها اسرائيل سرا وعلنا, وان العلاقات العسكرية بالذات ما بين اسرائيل وحكومة جنوب شرعية وصحة قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة اللاحق, والذي صنف الصهيونية على انها نوع من انواع العنصرية وهو القرار الذي نجحت اسرائيل في الغائه, وكان ضمن ما حصدته اسرائيل من ثمار السلام المزعوم, ومن ضمن سلسلة الخسارات والتنازلات العربية تحت ذات الشعار. ومع ان التصنيف الدولي جاء (للصهيونية) باعتبارها التنظيم العنصري, الا انه لا يمكن الفصل بين التنظيم والدولة القائمة بقوة ذلك التنظيم وعلى مبادئه, والمجسدة في ممارساتها لتلك المبادىء وليست هناك لحظة في تاريخ الدولة الاسرائيلية خرجت فيها أو على الاقل عطلت فيها الافكار والاهداف الصهيونية, وليس هناك زعيم اسرائيلي واحد لم يعلن ولاءه والتزامه بهذه الافكار والاهداف بل ان التنافس على الزعامة كان يتم بادعاء القدرة الاكبر على تحقيق (الحلم) الصهيوني. وكما لا تعفى دولة اسرائيل وحكوماتها من تهمة العنصرية الثابتة ــ دوليا ـ كل الصهيونية, فان الشعب اليهودي في اسرائيل لا يعفى منها ايضا, فهو الذي يفرز القيادات, ديمقراطيا, وهو الذي يحدد البرامج والممارسات للحكومات, ولم يسبق للشعب في اسرائيل ان دعم احدا من زعمائه كما دعم نتانياهو, فقرارات وممارسات رئيس الوزراء هذا مثيرة للجدل داخل اسرائيل وخارجها اكثر من اية سياسة لاي رئيس وزراء سابق كلية, وتقوم شهريا أو موسميا مراهنات على اسقاطه شعبيا بسبب تلك السياسات, وتفشل هذه المراهنات إذ يعود نتانياهو عبر الدعم الشعبي العام بين كافة قطاعات اليهود وليس عبر دعم الليكود وحده... بل ان خلافاته مع باقي زعماء الليكود تحسم في كل مرة (شعبيا) لصالحه, ومن هنا فان الشعب الاسرائيلي مسؤول عن تطبيق العنصرية بذات الدرجة التي تعتبر فيها المنظمة الصهيونية مسؤولة عن تبنيها كفكرة ومنهج, وبالتالي فان تورط كافة مكونات الدولة المرجعية الفكرية السياسية والحكومات والشعب, معناه ان كامل الدولة الاسرائيلية عنصرية, وهو ما تحاشت الجمعية العمومية قوله في قرارها لأسباب نعرفها, ولكن هذا الالتفاف على موضوع البحث (العنصرية) , لا يغير من هذا الاستنتاج المنطقي البسيط والمباشر, وضمن هذا التعريف للانظمة العنصرية, المباشر والصريح وغير المباشر والاقل صراحة, من جانب المنظمة الدولية والمجتمع الدولي بأسره, فان ضحايا هذه العنصرية هم الافارقة السود وغيرهم من السكان الملونين في جنوب افريقيا, والفلسطينيون وباقي العرب بالنسبة لاسرائيل والصهيونية, ومع ذلك, ومع ان اسرائيل اعتبرت (الجلاد) دوليا, ومع ان اتهام المجتمع الدولي لها بالعنصرية والظلم لشعوب اخرى لم يقف عند قرار واحد بل تجلى في عدة قرارات بشأن احتلالها لأرض الغير وتشريدها للسكان وتغييرها للمعالم الحضارية والدينية التابعة لغيرها من الاديان والحضارات, مما يتجلى في سلسلة قرارات اخرى للجمعية العمومية ولمجلس الامن ذاته, مع كل هذا فان اسرائيل (الجلاد) استمرت بلعب دور اسرائيل (الضحية) في الوقت نفسه!!! فاليهود ظلوا يسوقون انفسهم على انهم ضحايا, ليس فقط النازية, بل العالم بأسره طوال فترة احتلال الارض العربية وقيام دولة اسرائيل وتوسعها, بل ان ادعاء سمة الضحية وابتزاز العالم كله وطلب تعويضه واعتذاره لم يبلغ في تاريخ الصهيونية واليهودية واسرائيل, ما بلغه الان في زمن اكثر قياداتها وقاحة وتبجحا بعنصريته قولا وممارسة. فالآن, وعلى سبيل المثال, بدأت محاكمة اليهود لسويسرا بعد المانيا, وبدأت سلسلة انتزاع الاعتذارات تليها التعويضات الباهظة في حين ان اسرائيل ترفض الاعتذار للفلسطينيين أو تعويضهم, وتزيد اسرائيل على هذا بأن تسمي ضحاياها الفلسطينيين (بالارهابيين) ومثلهم اهل جنوب لبنان وتستخلص في هذا موافقة وتأييدا عالميا. والان ايضا تتم الاستهانة علنا بالحليف الاستراتيجي الاول لاسرائيل وولي نعمتها الذي فاقت نعمه نعم بريطانيا على الصهيونية واسرائيل. مقابل هذا الجلاد ــ الثابتة تهمته والمصنف بهذه السمة دوليا ــ والذي يصر على لعب دور الضحية وابتزاز العالم بنبش خمسة آلاف سنة من الحروب والنزاعات التي كان فيها دائما ضحايا على الجانبين, مقابل هذا نجد زعيم دولة وشعب جنوب افريقيا الحديثة, هذا الرجل العظيم عظمة اسطورية, يتناسى منذ يوم خروجه من سجن دام سبعة وعشرين عاما, معاناته الشخصية التي تعجز مجلدات عن وصفها والتي تمثل الامس القريب جدا ويسامح بها, ويدعو شعبه إلى ذات المساهمة والمصالحة, وينشىء الزعيم التاريخي دولة يصر فيها على انصاف البيض ويتعمد افساح مساحات لهم في السلطة ما كان يمكن ان يحصلوا عليها بالديمقراطية والمساواة وحدهما, لولا تدخل مانديلا, لصالح البيض هذه المرة وذلك في رؤية مستقبلية لقيادة بالفعل هي وحدها ــ على امتداد العالم المعاصر كله ــ (الملهمة) فمانديلا لا يريد ان يتحول التمييز العنصري من ابيض يميز ضد اسود إلى اسود يميز ضد ابيض, ويثبت الرجل انتماءه لمبادئه قبل انتمائه للونه وعرقه وشعبه, ويغدو بذلك زعيما عالميا وليس محليا, ويحكم القلوب والضمائر دون ان يسعى للتحكم بالدول والشعوب والمصائر عبر جيوش متفوقة أو اقتصاديات مهيمنة, كما تفعل اسرائيل. ولا يجامل الرجل المغرق في الذوق والدبلوماسية أحداً, ولا حتى حلفائه ايام التفرقة والسجن, في امر مبدئي, بل يعلن صراحة موقفه من كل قضايا الحريات وحقوق الانسان والشعوب على امتداد العالم. وعلى ابواب السجن الذي قضى فيه سبعة وعشرين عاما, يقف مانديلا ليقول ان هذا السجن كان يبدو كبيرا آنذاك, ولكنه صغير جدا الان, فالسجن كان عالم هذا الرجل الكبير حين فرض عليه, ولكنه الان خارجه لا يسمح لنفسه بان يبقى في حجم ذلك السجن وما جسده السجن من فكر ضيق ورؤية لا تتجاوز المصالح الذاتية الانانية, خارج السجن يكبر مانديلا, ويكبر بالذات بفعل سبعة وعشرين عاما من القيود على حجمه الحقيقي, ويصبح زعيما بحجم العالم, فيبدو السجن بالتالي صغيرا جدا ويتلاشى كنقطة سوداء وبقعة تلوث صغيرة لا يسمح لها مانديلا بان تمتد لتلوث حلمه الناصع النقي بعالم بعيد عن الظلم والتمييز. ومن خلف قضبان ذلك السجن يخاطب مانديلا رئيس أكبر دولة وأقوى دولة وينصحه بالحوار مع اعدائه والمختلفين معه بدل التلويح بالسلاح, ويتأكد للعالم, وهو يشهد الرجلين معا, ان زعامة العالم وقيادته لا تتأتيان لمالك القوة الاقتصادية والعسكرية, بل تتأتيان لمالك الحكمة والمبادىء, ويشمخ العجوز الافريقي سيدا غير منازع على عالم المفروض انه سير بحضارة الرجل الابيض وتكنولوجياته, والاهم من هذا كله, فان اكبر ضحايا العنصرية في جنوب افريقيا, واحد اكبر ضحايا العنصرية في العالم كله, يقف ليؤكد ان الضحية والجلاد لا يمكن ان يجتمعا تحت جلد انسان واحد ابدا, وان معاناة الضحية هي كموت حشرة, لا معنى لها, ان لم تتحول إلى تضحية في سبيل مبدأ, وان سجن الانسان هو ذاته الضحية وان جلاده الحقيقي قابع في تلك الذات. جلاد.. وضحايا... ولكن ما اكبر الفارق بين التضحية والتجارة, بين عري السجين وتعري الراقصة, بين مانديلا ونتانياهو.

Email