كلينتون.. والفيل الافريقي الثقيل: بقلم- د. محمد مخلوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مثل اسباني قديم يقول: (ايها المسافر ليس امامك اي طريق, فعليك انت ان تشقها بنفسك) . افريقيا السوداء, هذه القارة التائهة, تلبس اليوم ثياب هذا المسافر... انها امام خيار حاسم: التقدم او الانكفاء.. كي لا نقول (الانطفاء) . لوحة الواقع الافريقي سوداء قاتمة. هناك بعض نقاط الضوء الخافتة... لكنها قليلة ومتواضعة الى درجة انها لا تكاد تكسر قتامة اللوحة. حروب اهلية... مجاعات... اوبئة... (الايدز) .. تخلف... نهب... غياب عن ساحة الفعل... كم بشري هائل (معطل) . هذه الشرور كلها يحملها (الفيل الافريقي) على ظهره. انها تسمره في ارضه... وتنأى عنه فكرة التوجه... والطريق... وشق الطريق. الحديث عن افريقيا السوداء بهذه الصورة (الشعرية) قد يبدو ضربا من العبث (المر) ... لكنها مرارة مصدرها الواقع ووقائعه. منذ مطلع سنوات التسعينات والعديد من مناطق هذه القارة تعاني من اوضاع شديدة الصعوبة والخطورة. لقد شهدت منطقة البحيرات الكبرى مذابح ذهب ضحيتها اكثر من مليون شخص ما بين عام 1990 وعام ,1994 حيث تحول الصراع على السلطة بين القوات الحكومية والقوات المتمردة عليها الى مذابح (على الهوية) بين قبيلتي التوتسي والهوتو. وبقي الرأي العام الدولي (نائما) الى الوقت الذي نقلت فيه (كاميرات) التلفزة صورا مرعبة عن تلك الاحداث. ولا شك ان اولئك الذين شاهدوا ذلك المنظر الذي يبدو فيه, من بعيد, مجرى احد الانهار وكأنه مغطي بزهور (النيلوفر) ولكن عندما تقترب (الكاميرا) يكتشف المشاهد بأن تلك الازهار لم تكن سوى جثث الضحايا التي تم القاؤها في النهر. الملفت للانتباه اولا بأول هو ان (الرؤوس) المتصارعة على السلطة في معظم البلدان الافريقية هم من (قدامى) السياسيين الذين تلقوا خبراتهم داخل القوات الاستعمارية او مع ميليشيات مرت في تجربة السلطة قبل ان تنقلب عليها بعد الاحاطة بها. ان القائمين على الحكم في رواندا منذ عام 1994 هم من قبيلة التوتسي الذين كانوا قد هربوا من البلاد في فترة 1959 ــ 1963 عندما وضع البلجيكيون القوة الاستعمارية السابقة مجموعة من قبيلة الهوتو ــ الاقلية, على رأس السلطة عشية (الاستقلال) والرئيس الزائيري الحالي لوران كابيلا الذي عزل بالقوة الرئيس السابق موبوتو كان من انصار باتريس لومومبا. لومومبا هذا اعدمه موسى تشومبي قبل ان ينهي موبوتو هذا الاخير. الظواهر المشابهة العديدة في افريقيا. سادة الحرب في افريقيا هم (معتّقون) اذن, اما ادواتها فهي حديثة.. وشابة... الجدير بالذكر ان 50% من سكان افريقيا هم من الشباب الذين تقل اعمارهم عن 20 سنة كما دلت احصائيات دولية مؤخرا. الشباب الافارقة يتنافسون للانخراط في صفوف الجيش طمعا بالحصول على رواتب ثابتة لا يتم دفعها احيانا كثيرة مما يؤدي بدوره الى تمردات واعمال عنف وسلب ونهب بـ (قوة السلاح) . النظام التعليمي في افريقيا متفسخ والصناعة شبه معدومة والدورة التجارية معطلة والنخب السياسية تبحث عن افضل السبل لنهب الثروات الوطنية. كل هذه الامور وماعداها على شاكلتها تؤكد بأن الاستقلال لم يعط ثماره المرجوة. الحروب (القديمة) في افريقيا هي وحدها التي طورت من آلياتها وتقنياتها, واصبحت بهذا المعنى حروبا (حديثة) . ان الجيوش الافريقية ــ ذا صحت هذه التسمية ــ قد غدت افضل تسليحا واكثر احترافا. ويمكن قول نفس الشيء عن القوات التي اوصلت لوران كابيلا الى السلطة في زائير او عن القوات المتنازعة في رواندا والكونغو. الامر الجديد ــ وربما الاهم ــ هو دخول افريقيا اكثر فأكثر, رغم مواطن ضعفها البنيوية, في الحسابات الدولية. وفضلا عن نشاطات عصابات المافيا من جنسيات مختلفة اوروبية واسرائيلية وغيرها, فان افريقيا غدت محط اهتمام قوى دولية كبرى على رأسها الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا. ان السنوات الاخيرة المنصرمة شهدت بوضوح نوعا من الهجوم (الانكلوسكسوني) ضد ما تبقى لفرنسا من نفوذ في القارة السوداء.وهناك اليوم اعادة توزيع للاوراق في هذه المنطقة من العالم.. المنافسة مكشوفة و(حرب المواقع) دائرة بين الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا. الامر الذي عبر عنه رئيس جمهورية الجابون عمر بونجو بالقول: (المطلوب هو القاء فرنسا خارج القارة واخذ مكانها بكل بساطة) . وضمن هذا السياق من اثبات الوجود قامت القوات الفرنسية المتواجدة في افريقيا منذ فترة قريبة بمناورات عسكرية على الحدود السنغالية بمشاركة قوات سنغالية ومالية وموريتانية. الهدف المعلن لهذه المناورات هو: (تعزيز وسائل الامن الجماعي) ضد من؟! على الجانب الامريكي ـ سيقوم الرئيس بيل كلينتون برفقة زوجته هيلاري, بجولة افريقية تستمر عشرة ايام, وذلك ما بين 22 مارس و12 ابريل المقبل. ولم يسبق للرئيس الامريكي كلينتون ان زار افريقيا, بل ولم يذكر مجرد اسمها اثناء الخطاب الذي القاه مؤخرا بمناسبة الدورة 51 للجمعية العامة للامم المتحدة. اللهم تأتي هذه الزيارة بعد 20 سنة من الزيارة التي كان الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر قد قام بها في مطلع شهر ابريل من عام 1978. رحلة كارتر استمرت 72 ساعة فقط. وقد يكون من المفيد الاشارة الى انه يرافق الرئيس كلينتون في زيارته ثلاث طائرات بوينج 747 وعشر عربات وطائرة عمودية مصفحة و800 عنصر من بينهم 200 صحافي على الاقل. والطائرة التي ستقل الرئيس ستكون مزودة بغرفة استقبال ومكاتب وغرفة اتصالات وغرفة عمليات.. الامريكيون لا يثقون بأحد ـ فكيف بالافارقة؟؟ لحماية أمن مسؤولين سواهم. لا شك بان الرئيس الامريكي بيل كلينتون سيمتع نظره بمشاهدة مناظر افريقيا الجميلة وسيقابله اكثر من مرة ايقاع (السكسفون) وآلته الموسيقية المفضلة التي يجيد الافارقة العزف عليها. وسوف لن يحرم نفسه بالتأكيد من عدة (البومات) من الصور في (الادغال) .ولكن هذه الامور كلها ليست سوى (ملح) الزيارة و(بهارها) اما وجبتها الرئيسية فقد عبر عنها تقرير صادر عن مجلس الامن القومي الامريكي في شهر مايو الماضي جاء فيه: (ان حوالي الـ600 مليون افريقي الذين يعيشون في جنوب الصحراء يمثلون احد أهم الاسواق العالمية غير المستثمرة. والولايات المتحدة الامريكية تصدر الان نحو البلدان الافريقية ما يفوق صادراتها نحو مجمل بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. هذا مع العلم بان حصتها في السوق الافريقية لا تتجاوز 7% حتى الان. ان زيادة هذه الحصة سيخلق ثروة في افريقا وسيكون مفيدا للعمال الامريكيين) . وعلى طريق زيادة الحصة الامريكية من السوق الافريقية قررت واشنطن بتاريخ 27 فبراير الماضي رفع الحظر عن مبيعات الاسلحة لجنوب افريقيا, وكانت اوروبا قد سبقتها الى هذه الخطوة منذ عام 1994. كما اعلنت الادارة الامريكية خطة تحت عنوان (تشجيع التجارة وليس المساعدات) بحيث يتم الوصول في افق عام 2020 الى انشاء منطقة تبادل تجاري امريكي ـ افريقي حر. الشرط الوحيد الذي وضعته الادارة الامريكية لرفع الحظر عن مبيعات االاسلحة خص ضرورة تسوية النزاع بين القضاء الامريكي وشركتين من جنوب افريقيا كانتا قد ضربتا الحظر بعرض الحائط وحصلتا في الفترة الواقعة بين عام 1985 وعام 1989 على اسلحة للدفاع الجوي من شركة امريكية ثم باعتا هذه الاسلحة للعراق. وسلطات جنوب افريقيا تضغط من جانبها على الشركتين المذكورتين لدفع مبلغ 16.5 مليون دولار هو قيمة الغرامة التي حكم بها القضاء الامريكي. كذلك تعهدت حكومة جنوب افريقيا, كي تثبت حسن نواياها, بتجميد المفاوضات مع سوريا بخصوص تزويدها بنظام الكتروني, وكذلك بتوقيف البرنامج النووي الافريقي ـ الجنوبي. الاجراءات الامريكية وصداها الافريقي دفعت المدير المساعد لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية الى القول: (ان مبيعات الاسلحة تشكل اداة في خدمة دبلوماسية الولايات المتحدة الامريكية. ذلك ان واشنطن تستطيع بواسطتها ان تؤثر على سياسة صادرات جنوب افريقيا) . اخيرا, وضمن نفس السياق, هناك واقعة هامة قد تسمح بفهم افضل للحماس الظاهر على السطح هذه الايام. الواقعة هي ان حكومة جنوب افريقيا طرحت في شهر سبتمبر الماضي عرضا دوليا لتحديث ترسانة تسليحها, والشركات الامريكية تريد ان تكون بين قائمة المرشحين للصفقة. بكل الاحوال, يبقى المثل الاسباني القديم القائل: (ايها المسافر ليس امامك اية طريق. فعليك ان تشقها انت بنفسك) ساري المفعول بالنسبة لـ(الفيل الافريقي الثقيل) الذي يحمل على ظهره الارث الثقيل لتركة الماضي.. لكن هل هذا المثل يصح فقط بالنسبة له وحده؟! كاتب سوري مقيم في باريس *

Email