فرنسا في مواجهة التطرف اليميني: بقلم - رياض ابوملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الهزيمة الواضحة التي تلقاها اليمين الفرنسي التقليدي في الانتخابات المحلية الاخيرة لم تكن مفاجئة لأحد, اذ اعتبرت استمرارا طبيعيا ومتوقعا لهزيمته الرئيسية المدوية في الانتخابات التشريعية التي جرت منتصف العام الماضي, وحملت خصمه الحزب الاشتراكي الى السلطة بالتضامن مع الحزب الشيوعي وجماعة انصار البيئة . وبذلك اصبح هذا الائتلاف شريكا في الحكم الى جانب الرئيس جاك شيراك ممثل اليمين المعتدل والزعيم الفعلي للحزب الديغولي (التجمع من اجل الجمهورية) . بيد ان صدمة نتائج انتخابات المجالس المحلية تجاوزت حدود الصراع المحتدم بين اليمين واليسار, حيث يعود الحزب الاشتراكي بقيادة ليونيل جوسبان رئيس الحكومة الحالي ليلعب دورا رئيسيا في الحياة السياسية الفرنسية بعد اقل من ثلاث سنوات على رحيل زعيمه التاريخي فرانسو ميتران, اذ اكتشف الفرنسيون انهم اضحوا في مواجهة خطر اكبر تمثله (الجبهة الوطنية) المتطرفة بزعامة جان ماري لوبن. واذا كانت هذه الجبهة قد استفادت من حالة التذمر والاحباط التي تسود المجتمع الفرنسي بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة لشريحة واسعة من الفرنسيين, الا ان رصيدها الانتخابي تعزز اساسا بفضل تفتت قوى اليمين التقليدي نفسه وعدم قدرته على تحسين صورته امام الشعب الفرنسي, الامر الذي ادى الى انصراف ما يقرب من نصف عدد الناخبين (42 في المئة) عن المشاركة في العملية الانتخابية وهي نسبة عالية جدا في المقاييس الانتخابية ــ وبالتالي حدوث هذا الاختراق البارز من قبل اليمين المتطرف الذي احتفظ بنسبة من الاصوات تزيد عن 15 في المئة. وبذلك غدت (الجبهة الوطنية) القوة المرجحة والقادرة على تغليب هذا الاتجاه او ذاك اللذين يمثلهما كل من اليسار المتقدم واليمين التقليدي المتراجع. وعلى الرغم من ان اسبابا عديدة تضافرت في انتاج هذا الواقع وتكريسه, غير ان هناك من يحمل الحزب الاشتراكي الفرنسي, والرئيس الراحل فرانسوا ميتران شخصيا, المسؤولية الرئيسية عن اخراج خطر التطرف اليميني من القمقم والمساعدة في اضفاء طابع الشرعية على ممثليه ورموزه, وذلك من خلال تمكينهم من تكوين قوة نيابية شكلت, مع الوقت, قاعدة سياسية متزايدة الاهمية للجبهة الوطنية, فقد عمل ميتران على تعديل القانون الانتخابي للجمعية الوطنية الفرنسية في اوائل الثمانينات, حيث استبدل نظام الاغلبية الذي يمنع الاحزاب الصغيرة الحاصلة على اقل من خمسة في المئة من اصوات الناخبين من دخول البرلمان, بنظام التصويت النسبي الذي يمنح المرشحين مقاعد بحسب نسبة الاصوات الحاصلين عليها, وكان الهدف من ذلك, كما هو معروف, شق اليمين الفرنسي واضعافه من جهة, تم ابراز الخطر الذي يمثله اليمين المتطرف على فرنسا العلمانية من جهة اخرى. وقد نجح ميتران في تحقيق هدفه الاول آنذاك, اذ استطاع توفير خطوات اكبر لتقدم الحزب الاشتراكي, الامر الذي اتاح له (شخصيا تحقيق الفوز برئاسة الجمهورية خلال دورتين متواليتين (1981 ــ 1988 و1988 ــ 1995), لكنه لم يستطع التحكم بالهدف الثاني لان (الجبهة الوطنية) لا تزال تواصل تقدمها منذ ذلك الوقت. ويمكن ان يقال الشيء نفسه الآن بالنسبة للفوائد المباشرة التي حققها الحزب الاشتراكي, سواء في الانتخابات التشريعية التي جرت العام الماضي, او في انتخابات المجالس المحلية التي تعيش الاوساط السياسية الفرنسية حاليا ازمة نتائجها المثيرة للجدل, فالحزب الاشتراكي لازال يحقق المزيد من المكاسب بفضل تعديل القانون الانتخابي على نحو يتيح لحزب صغير, كحزب (الجبهة الوطنية) , ان يصبح مركز ثقل رئيسي في العملية الانتخابية, ويقول خصوم الحزب الاشتراكي ان ظاهرة جان ماري لوبن نمت وترعرعت في احضان اليسار, حيث كانت نسبة ناخبي (الجبهة الوطنية) لا تصل الى واحد في المئة عام 1981, اي عندما تسلم الرئيس ميتران رئاسة الجمهورية, لكن هذه النسبة وصلت في نهاية ولاية ميتران الى 15 في المئة من اصوات الناخبين, ومازالت في تصاعد مستمر ويضيف هؤلاء: عندما يتهدد خطر التطرف فرنسا كلها, ويشوه صورتها الحضارية, فمن الطبيعي ان يكون اليسار الفرنسي, والحزب الاشتراكي تحديدا, معنيين بما حدث... وبما يحدث اليوم, ويتحملان مسؤولية كبيرة بازاء هذا التطور المقلق. ان الاحساس بخطورة الموقف هو بالتأكيد ما دفع الرئيس الفرنسي الى التوجه نحو الفرنسيين بخطاب استثنائي عبر التلفزيون, مساء الاثنين الماضي, بصفته الرسمية وبصفته الشخصية الحزبية (كزعيم لحزب التجمع من اجل الجمهورية), وذلك للتعبير عن حالة القلق والتوتر التي تسود فرنسا منذ ظهور نتائج انتخابات المجالس المحلية, وللدعوة الى الخروج من مأزق جهود اليمين المتطرف. حديث الرئيس شيراك الى الفرنسيين ركز على مجموعة من النقاط الرئيسية المتصلة بالموقف الراهن, أبرزها: 1ــ وجود هوة حقيقية بين المواطنين الفرنسيين ورجال السياسة, الأمر الذي يؤكده امتناع اكثر من 40 في المئة عن المشاركة في العملية الانتخابية, وقد دعا الرئيس الفرنسي الى ردم هذه الهوة والعمل بطريقة تعيد الفرنسيين الى الاهتمام بالمشاركة في القضايا العامة على اساس قيم الجمهورية ومصلحتها. 2ــ ضرورة تحديث بعض القوانين الانتخابية بحيث يتم اجراء العديد من التغييرات الهادفة الى مشاركة نسائية أكبر في الحياة العامة, واللجوء الى عمليات استفتاء الرأي العام الفرنسي وعلى المستوى الوطني. ان تفكير الرئيس شيراك يتجه, كما يبدو, الى إلغاء قوانين الانتخابات المعتمدة حالياً والقائمة على اساس التمثيل النسبي, وهي القوانين التي كانت السبب المباشر للحصاد المر لليمين التقليدي وللتجاذب الحاد الذي تشهده فرنسا اليوم. 3ــ تأكيد الرئيس الفرنسي على أهمية مواجهة التطرف اليميني بكل حزم وضرورة خوض مواجهة حاسمة معه في المستقبل. ويتضح مما قاله شيراك انه سيجري مشاورات مع زعماء الاحزاب السياسية في فرنسا, الا انه سيتجاهل ممثلي (الجبهة الوطنية) , وهو ما يعتبر ايذاناً بفتح المعركة مع هذه الجبهة المتطرفة, التي وصفها بأنها (عنصرية وتكره الآخرين) . 4ــ وجه الرئيس شيراك انتقادات حادة الى بعض السياسيين اليمينيين الذين ارتضوا الدخول في مساومات مع (الجبهة الوطنية) من اجل الفوز برئاسة بعض المجالس المحلية ووصف تصرفهم بانه (موقف لا يليق بهم ويمكن ان يكون خطيراً) . 5ــ مطالبة اليسار بعدم (صب الزيت على النار) , ودعوته الى ان يكون نقده اكثر مسؤولية, بحيث لا يكون هدفه فقط تحقيق مكاسب انتخابية. قد يكون الرئيس شيراك اكتشف ان الهجوم هو افضل وسائل الدفاع, لوقف تقدم اليمين المتطرف, على الاقل, وذلك بانتظار تكوين قوى سياسية جديدة تستطيع مواجهة خطر الهجمة العنصرية المستفحلة, ومن الواضح ان الموقف المتشدد للرئيس الفرنسي حقق نتائج سريعة, اذ سارع بعض الذين فازوا برئاسة عدد من المجالس المحلية بدعم من (الجبهة الوطنية) الى تقديم استقالاتهم.. تباعاً.. قد يحقق اليسار فوائد أمنية من جراء تراجع خصومه المباشرين, لكنه لا يستطيع ان يظل خارج هذه المواجهة, مع اليمين المتطرف, حتى لو اضطر الى تقاسم النفوذ مع اليمين التقليدي في نهاية الامر. والحال, فان (نظام الرأسين) المالي الذي تمثله عملية التعايش بين الرئيس شيراك ورئيس حكومته ليونيل جوسبان يعتبر تجسيداً لواقع تقاسم النفوذ خصوصاً وان الفرنسيين يبدون مرتاحين للضوابط التي يخلقها وجود كل منهما كرقيب على الآخر, ومن داخل السلطة نفسها. كاتب لبناني مقيم في باريس*

Email