حديث المبادرات: بقلم - رياض أبوملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

مما لا شك فيه ان الاتحاد الاوروبي استطاع وضع الامور في نصابها الصحيح من خلال تسليط الاضواء على الموقف الاسرائيلي المعرقل لتحقيق تسوية سلمية عادلة وشاملة في المنطقة, كذلك اعادة تأكيد بعض المبادىء الاساسية المتصلة بحقوق الشعب الفلسطيني والاطراف العربية الاخرى التي استهدفها الغزو الصهيوني منذ ما يزيد على خمسين عاما وحتى الان. ولعل التطورات المثيرة التي رافقت زيارة وزير الخارجية البريطاني روبن كوك الى جبل ابوغنيم في القدس الشرقية, حيث تبني الحكومة الاسرائيلية مستعمرتها الجديدة (هارحوما) , لعبت دورا مهما في تحقيق هدف ابراز خطر التوسع الاستيطاني الاسرائيلي على عروبة القدس وعلى العملية السلمية من جهة, واظهار عزلة السياسات العدوانية التي تعتمدها تل ابيب من جهة اخرى. وفي هذا المجال, يمكن اضافة عنصرين بارزين لاعادة تشكيل المشهد السياسي المتصل بوجود اسرائيل, اولهما استعادة العدوانية الاسرائيلية, المتسمة بصلف لا حدود له, صورتها الحقيقية, برغم ان بنيامين نتانياهو قدم امثلة كثيرة على هذا الصلف الجنوني منذ وصوله الى السلطة, وثانيهما ان ممثل الطرف الاوروبي في المواجهة التي حدثت كان وزير خارجية بريطانيا بالذات. ومن اجل استدراك اي تفسير سياسي قد يقلل من اهمية المغزى الذي انطوت عليه المواجهة حول جبل ابوغنيم والنشاط الاستيطاني الاسرائيلي, فقد تلقى الوزير البريطاني دعما واضحا لا شك فيه من مصدرين اساسيين: حكومته اولا, بما يؤكد ان المسألة لا تتعلق بسلوك الوزير كوك شخصيا بل بالحكومة البريطانية وبالشعب البريطاني, ثم الاتحاد الاوروبي ثانيا, باعتباره الجهة التي تقود المبادرة الدبلوماسية الحالية والمسؤولة عن توجيهها وعن نتائجها السياسية. اكثر من ذلك, فان بعض المراقبين يعتبر الادارة الامريكية شريكة في تبني الاندفاعة البريطانية ـ الاوروبية, بعد ان امكن تحقيق قدر لا بأس به من التنسق بين الطرفين ليحل محل التنافس السلبي الذي ساد علاقاتهما على الدوام. وهناك من يؤكد جازما ان ما فعله الوزير البريطاني وما ادلى به من تصريحات تندد بالاستيطان الاسرائيلي وتحذر من اخطاره وهو ما لا تستطيعه الادارة الامريكية ولا تجرؤ عليه, انما يشكل قاعدة التفاهم الامريكي ـ الاوروبي الذي ستنجلي عنه, اما مبادرة امريكية جديدة تكون اكثر توازنا مما حدث حتى الان, واما مبادرة امريكية ـ اوروبية مشتركة تستند الى المبادىء الاساسية للتسوية السلمية وفي مقدمتها مبدأ الارض مقابل السلام. وفي حين يقلص هذا التفاهم هامش المناورة امام الحكومة الاسرائيلية, ويقلل من فرص اختبائها خلف التناقضات الاوروبية ـ الامريكية, الا ان ثمة من يبدي تخوفه من ان تعمد اطراف نافذة داخل الادارة الامريكية الى محاولة استيعاب الموقف الاوروبي, بل المبادرة الاوروبية كلها, ثم تحويلهما الى مجرد اقتراحات تكرر فيها واشنطن افكارها السابقة المعروفة مع اضافة تعديلات شكلية اليها. ويشير هؤلاء الى تأخير اعلان المبادرة الاوروبية التي كانت شبه جاهزة ولا تحتاج الا الى الاعلان عن تفاصيلها, كمؤشر على احتمال تميعها وتنفيس الضغط الذي تشكله على الموقف الاسرائيلي. ولن يتأتى ازالة هذه المخاوف بصورة نهائية الا بعد اتضاح حقيقة ما يتردد ويشاع عن المبادرة الامريكية الجديدة. ويتوقف اصحاب هذه المخاوف عند نقطتي تناقض جوهريتين: ـ الاولى: ان الجانب الاوروبي يدعو الى تحقيق تسوية شاملة في المنطقة وهو يؤكد على ضرورة التحرك على مختلف المسارات, بينما يركز الجانب الامريكي على المسار الفلسطيني وحده ومن المتوقع ان يحصر مبادرته (الموعودة) في تحقيق تقدم على هذا المسار, وفقا لما اعلنه وزير الخارجية المصري عمرو موسى. ـ الثانية: ان الجانب الاوروبي يؤمن بضرورة ممارسة ضغوط على الحكومة الاسرائيلية من اجل حملها على تنفيذ التزاماتها الخاصة بالتسوية السلمية, في حين تتجنب الادارة الامريكية اللجوء الى هذه الوسائل وتفضل ترك الاطراف المعنية تعالج مشاكلها مباشرة وبعيدا عن اي تأثير خارجي. وهو ما يتطابق مع الموقف الاسرائيلي نفسه. وليس من الواضح حتى الآن ان كانت الادارة الامريكية ستغير من اسلوبها في التعامل مع المشكلة واطرافها, ذلك ان الضغط الامريكي ينصب حاليا على جهة واحدة هي الجهة الفلسطينية من خلال ما تسميه واشنطن التزامات الطرف الفلسطيني تجاه (الامن الاسرائيلي) , و(مكافحة الارهاب) , بما يعني تدمير البنى التحتية للمنظمات الفلسطينية المعارضة, واستخدام سياسة استئصالية ضدها. ولا تخفي المصادر الدبلوماسية الامريكية وجود صعوبات كبيرة في شأن احتمال حدوث تغيير جوهري وحاسم في الموقف الامريكي, ويقول روبرت بلليترو المساعد السابق لوزير الخارجية الامريكية, في هذا الصدد, (ان الادارة الامريكية الحالية تجد نفسه مقيدة باعتبارات سياسية داخلية من بينها الانتخابات الاشتراعية النصفية في نوفمبر المقبل, والبداية الفعلية لمعركة الرئاسة في عام 2000. والى ذلك يضيف آخرون الوضع الحالي الذي يواجهه الرئيس بيل كلينتون نتيجة لاغراقه في فضائح شخصية عديدة, وهو ما سينعكس بالتأكيد على ادائه شخصيا, وعلى انسجام ادارته. فهل يستطيع الضغط الاوروبي اخراج الرئيس الامريكي من حالة التردد التي يعيشها, وبالتالي دفعه الى نقطة التقاء يمكن ان تشكل قاعدة للتعاون في المستقبل؟ ولكن بالنسبة للجانب العربي فان الامر الاكثر اهمية هو ألا يأتي التفاهم الامريكي ــ الاوروبي على حسابه, كما كان الحال دائما. كاتب لبناني مقيم في باريس*

Email