مسيرة التسوية و(ثقافة) الاحباط: (2 ــ 2) بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في رأي البعض من دعاة (السلام) والتطبيع مع اسرائيل, أن ذلك يتم من باب التعامل مع الواقع في ضوء ما يسمح به المجتمع الدولي, والدول الكبرى من المحافظة على موازين القوى في المنطقة, وفق ما تراه تلك الدول محققة لمصالحها الحيوية . ومفهوم الواقعية ــ بالطبع ــ في رؤية هذا البعض, يستنكر التحليق في آفاق الخيال, ويبتعد عن الخطاب ذي الطابع الحماسي, والذي يغلب عليه الشعارات التي كانت تسود ساحتنا العربية في بعض عقود هذا القرن. وهي الشعارات التي لم تعد لها أي قيمة في شؤوننا العامة, ومنها ــ بطبيعة الحال ــ مسألة التهديد الاسرائيلي للوجود العربي الاسلامي. والتعامل مع الحالة الاسرائيلية كما يرى (الواقعيون) وفق هذا التصور لــ (الواقعية) يقتضي التعامل مع الحالة الصهيونية, باعتبارها تاريخا انتهت احداثه وآثاره باتفاقيات السلام, ولابد أن يكون شعار (عفا الله عما سلف) هو السائد في ظل هذا الواقع الجديد. كما أنه لابد من التعايش مع اليهود, والقناعة بما جادت به الاتفاقيات المعقودة معهم, دون الغلو او المبالغة في المطالبات التي تتعارض مع مبدأ (الواقعية) ! وحتى يتحقق التعايش المطلوب, فلابد أن يتم مسح ما أنبتته الذاكرة العربية في تاريخ صراعها الطويل مع الحالة الصهيونية. وللبس الذي يدور حول مصطلح (الواقعية) , فإنه من المفيد ذكر بعض المبررات التي يسوقها دعاتها في ترويجهم لتلك الفكرة. اهم تلك المبررات, هو واقع حالة العرب في ظل الأزمة التي عانى منها الشأن العربي بشكل عام, والمتمثلة في غياب المشروع الحضاري, وغياب أهدافه, وانعكاسات ذلك على حالة عدم الاستقرار السياسي, والتردي الاقتصادي, والخلل في بعض المظاهر الاجتماعية في العديد من الدول العربية. في ظل هذا الواقع, فليس هناك كبير امل في موقف عربي له قيمته في شأن الصراع العربي ــ الاسرائيلي. أما المبرر الثاني, يتعلق باسرائيل نفسها, من حيث تمتعها بوضع عسكري يضمن لها تفوقا في اي صراع محتمل في الوقت الحاضر, وفي المستقبل المنظور. والمبرر الثالث, فيتعلق بموقف الدول الكبرى, وفي مقدمتها الولايات المتحدة من مسألة الصراع العربي الاسرائيلي, وانحيازها الظاهر الى جانب اسرائيل. وهو الموقف الذي أسهم الى حد كبير في تحقيق التفوق المتقدم لصالح اسرائيل, ولكنه بطبيعة الحال ليس العامل الوحيد في تحقيق ذلك. ربما كانت تلك الأمور الثلاثة أهم المبررات التي يسوقها دعاة (الواقعية) في هذا الشأن, بالطبع لا تخلو تلك المبررات من بعض الحقيقة, التي لا يمكن انكار تأثيرها الكبير على القضية برمتها. ولكن هل يبرر ذلك هذا (الانبطاح) أمام اسرائيل, وهذه الانتكاسة وهذه التنازلات المستمرة والتي تستهدف الوجود العربي كله؟ السلام لا الاستسلام قبل الاجابة على مثل هذا التساؤل المشروع, أحسب أنه من الأهمية بمكان بيان حقيقة هامة ذات صلة بموضوع السلام, والتطبيع, وذلك من حيث التفرقة الواجبة بين التحفظ على السلام بصيغته المعروضة, او رفض سياقه المسكون بالاجحاف وعدم الانصاف, وبين القبول بالسلام كمبدأ لا يجوز التحفظ عليه, فضلا عن رفضه. ولعل الخلط بين الأمرين يستدعي بيان تلك الحقيقة, خاصة وأنه بسبب هذا الخلط, تصدى بعض الناس ــ دون وعي ــ لترديد ما تروج له اسرائيل في رؤيتها ــ هي ــ للسلام الذي تريده وتسعى اليه, وفقا لشروطها التي تحقق أهدافها. مما أحدث ذلك كله قدرا من الالتباس في الساحة الفكرية العربية, ونماذج المتورطين في هذا الخلط عديدة, اكتفى في هذا المقام بمثالين صارخين. أحدهما لشخصية عربية تحتل مركزا ثقافيا استراتيجيا مرموقا, والآخر لاحد المناضلين (السابقين) . أما الاول, فقد كتب صاحبه نقدا لاذعا, يصف فيه معارضي الهرولة نحو التطبيع مع اسرائيل بأنهم متقاعسون, يؤثرون النكوص والبقاء خارج اللعبة, ولا يدركون الثمن الذي تدفعه أمة العرب اذا ساد منطقهم.. الى آخر مقاله الحافل بالعديد من المصطلحات ذات الطابع الهجومي. وقد احدث هذا المقال جدلا ولغطا كبيرين, تولى بعض المثقفين بيان الحقائق تجاه المسائل التي تناولها في مقاله, ولعل ابرز هؤلاء الاستاذ فهمي هويدي. الذي نشر في صحيفة الشرق الاوسط مقالا بعنوان (النكوص أشرف من الانبطاح) وقد بين فيه أوجه الالتباس التي وقع فيها صاحبنا, وناقش أسباب ذلك الالتباس وركائزه التي تتلخص في نقاط ثلاث, هي: الاولى ان معارضي الهرولة هم رافضون لعملية السلام العربية الاسرائيلية, في أشكالها الثنائية ومتعددة الاطراف. في هذه المقولة تبسيط مخل, وقد تمت الاشارة قبل قليل الى وجوب التفرقة بين التحفظ على صيغة السلام المعروضة, ورفض المبدأ ذاته. والثانية ان موقف المعارضين (للتطبيع) يتلخص في مجرد الدعوة الى التأجيل المستمر للحركة والفعل, انتظارا لعملية تاريخية كبرى تتخلص فيها البلدان العربية من حكامها, ويأتي آخرون مخلصون بصفاء نادر, يتحابون ويتحدون, وبعدها تصير كل الأمور ممكنة, فتندفع الجيوش العربية المظفرة لكي تخلص فلسطين من البحر الى النهر من الصهاينة المعتدين, أو تتم عملية التحديث الكبري المنتظره في الساحة فيتعلم الجميع, ولا يصبح هناك امي واحد بين أهل العروبة, وتقام المصانع وتزدهر المزارع, ومع القوة الاقتصادية تأتي التكنولوجيا الى المصانع الحربية العربية, وربما بقدر من خفة اليد تقام المفاعلات الذرية, وبعدها يمكن الجلوس مع اسرائيل.. وحتى تتبين ان ميزان القوى لم يعد في صالحها, فإنها ستسلم بكل مطالبنا المشروعة بعد جلسة واحدة من المفاوضات!, بل وربما تكتشف اسرائيل الحقيقة, فتسلم بكل شيء من دون مفاوضات) . مصادرة الحلم حفلت هذه المقولة الأخيرة التي اعتمد عليها الكاتب في شن هجومه على منتقدي (الهرولة) بالعديد من جوانب التهكم والسخرية بشكل يدعو الى اليأس, ليس فقط من الواقع المتراجع, بل انسحب ذلك على اي أمل يمكن ان يلوح في المستقبل. وهي مسألة خطيرة بحسبانها تلغي حق الانسان العربي حتى في مجرد الحلم المشروع, وتنسب الاحباط الى مشروعه, الذي يفتقد الارادة الكافية لاستثمار الطاقات المتاحة لمواجهة المخاطر التي تهدد كيانها وهويتها. ولعل (ثقافة الاحباط) التي يروج لها صاحبنا, أفقدت ذاكرته ما أنجزه الاطفال الفلسطينيون في سنوات الانتفاضة التي هزت الكيان, وأصابت أعماقه وجذوره بشكل غير مسبوق منذ قيامه في عام 1948. بقي ان نشير الى الركيزة ــ أو الشبهة ــ الثالثة لصاحب ذلك المقال, والتي تقرر ان الذين وقعوا اتفاقيات السلام مع اسرائيل هم (الذين انتفضوا وحاربوا وقاتلوا, واختاروا تحويل ذلك الى نتائج ووقائع على الارض, وحقوق تكتسب) . هذه الأخيرة, تفتقد الدقة الى حد كبير, بل انه كما يقول الاستاذ هويدي ــ ليس صحيحا ان الذين انتفضوا وحاربوا وقاتلوا هم الذين وقعوا اتفاقيات السلام, وانما الصحيح ان بعضا من قياداتهم فقط حل بهم التعب ودب فيهم اليأس, فلم يصبروا, وعندئذ وقعوا على ما أملى عليهم إملاء. مقال صاحبنا السابق كان نموذجا لما يمارسه بعض مثقفينا من الترويج لــ (الواقعية) بعد إثبات اليأس والاحباط من اي تغيير للخلل في الواقع المشهود. أما النموذج الآخر للإحباط, فهو (عسكري) ولقائد أمني وطني, كان من المفترض بحكم موقعه ان يكون من أبرز المتحمسين والعاملين لاسترداد الحقوق المسلوبة. ولكن يبدو ان (ثقافة الاحباط) قد استشرت حتى في الاوساط الأمنية وهو مؤشر له دلالاته الخطيرة المعروفة. وما قاله ذلك المسؤول الأمني في محاضرة باحدى الجامعات الفلسطينية, جدير بالرصد والتحليل, وذلك بالنظر لأهمية وحساسية الموقع الوظيفي الذي يحتله. وقد حفلت محاضرة (الزعيم) بالعديد من العبارات التي تدعو الى ترسيح (الواقعية) وفقا لمفهوم دعاة التطبيع, والتي ــ هي في حقيقة الأمر ــ تراجع وانهزام. من أمثلة العبارات التي وردت في المحاضرة المذكورة (ان اسرائيل لن تسمح باقامة دولة فلسطينية, وان على الفلسطينيين القبول بالتعايش معها! والقناعة والرضا بما تم التحصيل عليه في اتفاق أوسلو) . وللتسويق لهذه (البضاعة الاسرائيلية) قال سيادته ان الخيارات الاخرى للحصول على مزيد من التنازلات او تحقيق إقامة دولة فلسطينية مستقلة, غير متاحة وغير ممكنة لان الخيار العسكري ــ من وجهة نظره ــ لم يحقق شيئا من ذلك القبيل, خاصة وان العرب قوم لا يمكن الاعتماد عليهم في هذا الشأن! كما ان المسلمين قد اسقطوا خيار الجهاد في مؤتمر داكار, بل أن هذا القرار قرار دولي وليس اسلاميا فحسب. في ضوء تلك الحيثيات فان الخيار الوحيد الذي يطرحه سيادة اللواء هو (التفكير بكيفية تحييد اسرائيل لكي تندمج في المنطقة) . وللتسويق للفكرة الاخيرة (دمج اسرائيل) برر سيادته بأن (الأمة العربية أذابت كل الاغراب, ولا يمكن ألا يذوب فيها الا الذي يبقى منفصلا مثل اسرائيل اليوم) ! غياب الحقيقة مغالطات اللواء في محاضرته عديدة, ولعل العبارات المتقدمة من كلامه كانت أمثلة لتلك المغالطات, ولعل الذي أوقعه في مثل تلك (المهلكات) هو غياب حقيقة الصراع مع الطرف الصهيوني الاخر, فضلا عن تعريف هويته. فالصراع ليس ماديا فحسب, وليس نزاعا حول شارع او منزل او قطعة أرض, بحيث يمكن المساومة على شيء من ذلك, او المشاركة فيه. وان كانت هذه الحقوق اولى باصحابها بطبيعة الحال. ولا يبرر اي منطق التنازل عنها, خاصة اذا كانت تلك الممتلكات تمثل رمزا مقدسا له مكانته الكبرى في نفوس المسلمين, مثل مدينة القدس. أمر مهم آخر في محاضرة اللواء هو أنه وجه كل حديثه الى الطرف الفلسطيني لتهيئته لمزيد من التنازلات والقبول بها, وذلك انطلاقا من فهمه للواقعية وتقريره لها. بل وانه يطالب الفلسطينيين باثبات حسن النية تجاه الاسرائيليين! ويقول سيادته في هذا السياق, ان الدولة العبرية القوية سوف لن تتنازل عن اي شيء, وليس من طريق سوى اثبات حسن النية لها لامكانية التنازل حفاظا على (السلام) اي سلام؟! لست أدري أي سلام يعني سيادة اللواء, واي امتيازات وحقوق أعطتها اتفاقاته لهم, لكن القدر المتيقن ان الاوضاع العامة في المناطق التي منحت حكما ذاتيا قد ازدادت بؤسا ويأسا, وليس حصار الاسرائيليين لتلك المناطق, ومنع الفلسطينيين من الدخول اليها والخروج منها, بالاضافة الى مسلسل الاذلال المستمر للشعب الفلسطيني, الا من مظاهر ذلك البؤس. ربما كان الأجدر بسيادة اللواء ان يوجه مواعظه ونصائحه للقاتل لا للضحية. ولكن يبدو ان الخلط في تحديد المعتدي من المعتدى عليه, والانقلاب المثير في المفاهيم والمصطلحات, والتراجع المشين عن المبادىء, وتحولها الى شعارات, هي من المظاهر المحزنة في الواقع العربي, والأزمات التي نتجت عنه, والتي ليس لها من دون الله كاشفة. وكيل كلية التربية ـ جامعة الامارات*

Email