أوروبا بين الوحدة والتباين: بقلم -عادل محمد حسن

ت + ت - الحجم الطبيعي

شعار الوحدة الاوروبية ليس بالشعار الجديد في القارة الاوروبية. فلقد طرح شعار اتحاد الولايات الأوروبية في مطلع القرن, غير أن تحقيقه واجه جملة من التناقضات وتنافر المصالح الى حد ان تحولت القارة الأوروبية الى ساحة من الصراع والحروب المدمرة. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية جرى احياء هذا الشعار بعد كل ما جرى على القارة الأوروبية من دمار وأهوال الحرب, غير أن الحرب الباردة أبعدت كل الآمال بتحقيق هذا الشعار بعد أن انقسمت أوروبا بين قطبي الصراع الدولي. واستمر هذا الانقسام لمدة خمسة عقود من المواجهة الى أن انهار جدار برلين. وانتعشت الآمال بتحقيق هذا الشعار بعد نهاية الحرب الباردة. وطرح العديد من المشاريع لتحقيق الوحدة الأوروبية وتوسيع الاتحاد الاوروبي لكي يشمل دول أوروبا الشرقية ايضا. ولكن هل كل الاجراءات والخطوات التي اتخذتها الدول الأوروبية باتجاه تحقيق الوحدة بينها, وكل التطورات التي جرت في ميدان التقارب الاقتصادية وظاهرة العولمة الاقتصادية ستسرع أمر تحقيق حلم الوحدة المنشودة للقارة الأوروبية؟ الجواب على هذا السؤال من قبل المعنيين بهذه القضية الحيوية يتراوح بين الرد الايجابي وبين التشكيك بامكانية تحقيق الوحدة الأوروبية وبالسرعة التي ينشدها الاوروبيون. إن العديد من المؤشرات تدل على أن الأمم الأوروبية ما زالت بعيدة عن تحقيق حلم الوحدة بينها. فالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبنيوية السياسية ما زالت متباينة. وان طموح التغيير الشامل لدى المواطن الاوروبي بما يتلاءم مع ما تواجهه أوروبا وهي تخطو على عتبة الألفية الثالثة مازال يصطدم بروح المحافظة السائدة في عدد من الدول الاوروبية. واذ تستجيب بعض الدول لمطالب التغيير وتنتخب ممثلي يسار الوسط ليحكم البلاد, نرى أن بعض الأمم الأوروبية اما مازالت متمسكة بالحكومات المحافظة او انها تدعم ممثلي التيار الفاشي الجديد في برلماناتها. هذه الظاهرة تقلص من فرص التجانس بين الشعوب الأوروبية. ويشير آخر تقرير صدر في مائة صفحة ونشر في الاسبوع الماضي, والذي أعدته لجنة منبثقة من الاتحاد الاوروبي, الى وجود العديد من المؤشرات الاجتماعية التي تعمق الانقسام بين الأمم الأوروبية. ويشير هذا الاستبيان الى التباين بين البريطاني ونظيره الفرنسي, وبين السويدي واليوناني, وبين الاسباني وبين مواطن لوكمسبرج في كل يومياتهم. ان هذا الاستبيان يغطي كل جوانب حياة الأوروبيين بدءا من معدلات الولادة والوفيات الى معدل الاصابات بالايدز وتناول الكحول وعدد أطباء الاسنان لكل مائة الف شخص. وعلى الرغم من ان التقرير لم يتوصل الى اية استنتاجات, إلا أنه ركز على مقارنة مثيرة لمظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة لدى الفرد الاوروبي, هذه المقارنة من شأنها ان تقنع المراقب البعيد عن القارة باستحالة جمع كل هذه المتناقضات في بوتقه واحدة رغم الجهود التي تبذلها الدول الاوروبية لوضع قاسم مشترك لهذه الأمم سواء على نطاق توحيد العملة او طريقة التغذية. فالمواطن الاسكندنافي, على سبيل المثال, ما زال يتسم بالكآبة والحزم في حين يتميز اللاتينيون بسرعة الانفعال, واليونانيون بتعلقهم المفرط بالتدخين. ان السويديين, على سبيل المثال يتمتعون باعلى معدلات العمر ليصل الى 5.76 سنة, ويعتبر السويديون اكثر الاوروبيين اتزانا في سياقة السيارات بحيث ان معدل ضحايا المرور هو الاقل في القارة الاوروبية. ويعتبر السويديون الاقل استهلاكا للتدخين في القارة الاوروبية حيث يبلغ ما يدخنه كل مواطن 922 سيجارة سنويا, ولكن كل هذا الاعتدال للمواطن السويدي ترافقه ظاهرة ملفتة للنظر تتحدد في عدد الرجال الذين ينتحرون سنويا حيث يبلغ 9.20 رجلا من مجموع مائة الف, اي ضعف معدل الرجال الذين يلجأون الى الانتحار في المملكة المتحدة. أما اليونانيون فلديهم أسوأ التقاليد في التدخين ضمن مجموعة الدول الاوروبية حيث يصل معدل التدخين لكل فرد سنويا الى 3000 سيجارة. ويبلغ معدل عدد الرجال اليونانيين الذين يلجأون الى الانتحار سنويا 5.5 وبين النساء اليونانيات 1.1 من كل مائة الف شخص. ويشير التقرير أيضا الى معدلات ساعات العمل الاسبوعي حيث يعمل الفرد البريطاني 9.43 ساعة في حين يعمل المواطن الدنماركي 7.38 ساعة في الاسبوع. أما الاصابة بمرض الايدز فيقف المواطن الاسباني في مقدمة المصابين بهذا المرض الخطير حيث يوجد 7.167 مصابا من كل مائة الف من السكان ويليه المواطنون الايطاليون 6.92 ثم البرتغاليون 1.,91 في حين لا يصاب الا 1.11 مواطن نرويجي من اصل مائة الف بهذا المرض. هذه المؤشرات الاجتماعية يستند اليها المشككون بامكانية الوحدة الاوروبية للتدليل على الفوارق الاجتماعية الكبيرة التي تقف حائلا دون امكانية تحقيق الوحدة بين هذه الأمم. ولكن أنصار الوحدة الأوروبية يعتقدون بان هذه الفوارق لا يمكن ان تحد من امكانية الوحدة بين الاوروبيين. ويشير داني الكسندر, أحد زعماء (الحركة الأوروبية) ومقرها في لندن, الى أنه حتى في إطار الدولة الواحدة يمكننا العثور على الكثير من الفوارق الاجتماعية, ان المهم هو ان الاوروبيين يشعرون الآن بفوائد العمل والتعايش بصورة مشتركة وهو ما يدفعهم نحو الوحدة. ويدحض داني الكسندر الآثار السلبية لهذه الاحصائيات على عملية الوحدة واعتبرها وسيلة للتعارف بين الأمم مما يسهل التعايش بين بعضها. ولكن تبقى هذه الفوارق الاجتماعية مؤشرا على نمط متفاوت من الثقافة والتقاليد. واذا أضفنا اليها ذلك القدر من التفاوت في انتاجية العمل ومستويات المعيشة والناتج القومي الاجمالي تصبح الصورة اكثر تعقيدا واكثر سلبية على امكانية إنجاز هذه العملية. كاتب عراقي مقيم في لندن *

Email