دموع الجنرال لا تبكي احدا...! بقلم:الدكتور طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا اعرف من الذي قال ان دموع التماسيح كاذبة, او ان الحيوانات المفترسة بما فيها التماسيح لا تبكي ابدا, وان بكت فإنها لا تفعل ذلك لابداء الاسى على ما حدث للضحية التي تسقط بين مخالبها وانيابها, وانما ان فعلت ذلك فهي تفعله للسخرية من الضحايا, لكن من المؤكد ان من قال ذلك عن تلك الحيوانات, ووصم دموع التماسيح بالكذب كان يفعل ذلك لابعاد تلك الصفة عن بني البشر, اي ابعاد صفة السخرية من الضحايا من البشر والصاقها بالحيوانات, دون ان يخطر على ذهنه انه قد يشاهد يوما ما بشرا يسكبون تلك الدموع, ليس اشفاقا على الضحايا ولا حتي سخرية منهم, ولكنهم يذرفون تلك الدموع بكاء على ضياع السلطة التي منحتهم القوة لممارسة قتل وتعذيب الآخرين, لأنهم يعتقدون ان مهمتهم في التعذيب والقتل لم تكتمل, ومجبرون على التقاعد قبل اكمال المهمة. بلاشك ان الذين وصفوا دموع التماسيح بالكذب والخداع لم يكونوا قد شاهدوا بعد بشرا على شاكلة الجنرال (اوجوستو بينوتشيه) ذلك الجنرال صاحب الزي الابيض الموشى بالذهب, الذي لم تعرف عيونه الدموع ابدا طوال خمسة وعشرين عاما, كانت تظهر فيها صورته في وسائل الاعلام العالمية منذ انقلابه الدموي الشهير في عام 1973, مبتسما, وتزهو قامته بعلامة النصر, مع ان كل انتصاراته التي يزهو بها تتركز في التضحية بتجربة وطنه الديمقراطية, وبرئيس بلاده المنتخب من الجماهير (سلفادور الليندي) وعددا لا يحصى من ابناء الوطن الذين وجد الجنرال انهم عقبة في طريق تسلطه وجلوسه على كرسي ليس له, بعد ان حوله إلى عرش من الجماجم, وضحايا هذا الجنرال لم يكونوا من المعارضة فقط, بل كانوا من زملائه واصدقائه ايضا, فهو مثل كل الانقلابيين, كان يعرف ان الامر لن يستتب له ما لم يتخلص من الذين احاطوا به لحظة الانتصار على جثة الرئيس المنتخب, تخلص من بعضهم بالقتل المباشر, وتخلص من البعض الاخر بالتآمر. هذه الافكار راودت الكثيرين عندما شاهدوا الجنرال التشيلي قبل ايام وفي عينيه دموع التباكي على ضياع السلطة, لكنهم جميعا ــ عدا من يؤيدونه ــ كانوا يعرفون تماما ان الامر لا يعدو ان يكون نوعا من التمثيل السينمائي, الذي مارسه الجنرال ببراعة طوال سنوات إلى ان تمكن من تنفيذ احلامه في التسلط والقمع. لم يكن الجنرال (اوجوستو بينوتشيه) مختلفا عن غيره من ضباط الجيش التشيلي في شيء لم يكن حاد الذكاء كما كان معروفا عن العديد من ضباط ذلك الجيش, ولم يكن متفوقا في شيء, بل كان ضابطا عاديا سار في طريق الترقية العادي إلى ان وصل إلى اعلى المراتب التي يستحق بعدها التقاعد المبكر, الذي هو شأن الضباط العاديين, ولكن كثيرا ما تلعب الظروف دورا مهما في حياة البعض ليصلوا إلى ما لم تحملهم اليهم طموحاتهم, وكان حظ هذا الجنرال ان تحدث هزة عميقة بين قائد الجيش التشيلي والرئيس المنتخب (سلفادور الليندي) وجد بعدها القائد العسكري الذي اقسم على حفظ القانون والدستور انه على وشك التخلي عن قسمه, فقرر ان يقدم استقالته وان يقدم للرئيس المنتخب شخصا لا طعم له ولا رائحة, يمكنه التطوع بهذه الخدمة المطلوبة حتى تهدأ الامور وتعود إلى مجراها. بعد ساعات قليلة انتقلت قيادة الجيش من قائد متمرس إلى ضابط تمت ترقيته على عجل ليحل محله, إلى ان يتمكن الرئيس المنتخب من تدعيم سلطته المهددة بالاخطار الخارجية, وبشكل خاص في مواجهة شركات النحاس الامريكية, التي كانت تحاول السيطرة على مصدر البلاد من العملة الصعبة, ووظفت في سبيل ذلك كل ما تملك من وسائل, ومن بينها المخابرات المركزية الامريكية, التي كانت تتربص ايضا بالتشيلي حتى لا تفلت سيطرة الولايات المتحدة على بلد استراتيجي مهم في تلك المنطقة. لكن الجنرال الجديد كان ذئبا في زي حمل, كان معجونا بالخيانة, باع الوطن قبل ان يستقر القسم على شفتيه, وتطلع إلى تنفيذ ما طلبه من السادة دون ان يرف له جفن, كان متعجلا, ورفض ان يعطي الرئيس المنتخب مهلة يخلي فيها موقعه, فارسل القاذفات إلى القصر الجمهوري وكأنه يخلي موقعا مدججا بسلاح العدو, وملأ الملعب الوطني بعشرات الآلاف من البشر تم حصدهم بالسلاح الوحيد الذي يعرفه: القتل والمقابر الجماعية. ما ان دانت له البلاد حتى كان البوليس السياسي اداته في القمع تعذيبا وقتلا دون ان يرف له جفن, وظل على تل الجماجم الذي كان يكبر كل عام, وككل من وصلوا إلى السلطة على ظهر دبابة لم يكن على استعداد للتنازل عنها الا بصليل السيوف, لكن مع المتغيرات السياسية التي حلت على المنطقة, وتطلبت ان يتخلى الجنرال عن السلطة, قرر التخلي عنها بطريقته الخاصة, وتحت ظل سيده الجالس في البيت الابيض, فكان التحول من دكتاتورية بينوتشيه إلى الديمقراطية في التشيلي اغرب تحول يمكن ان يحدث في سياسة دولة في العالم كان التحول وفق شروط الجنرال وتحت رقابة المخابرات الامريكية التي وضعته على رأس السلطة. تحول الجنرال اوجوستو بينو تشيه وفق دستوره الخاص من دكتاتور وصل الى السلطة على ظهر دبابة الى (حامي حمى الديمقراطية) , وكلمته دائما تسبق اي ممارسة ديمقراطية حقيقية فتحول الرئيس الجديد المنتخب من الشعب مباشرة الى مجرد موظف لدى الجنرال الذي رفض الاعتراف بأي قوانين للاحالة الى المعاش في اي بلد من العالم وتجاوز الثانية والثمانين ممسكا بعصا المارشالية وجالسا على مقعد القائد الاعلى للقوات المسلحة. ولانه كان يعرف ان ابتعاده عن كرسي السلطة يعرضه للمساءلة, فقد وضع دستورا استفتى عليه ضحاياه وضع في اول بنوده عفوا عاما للقتلة ولان الشعب الضحية ادان الدستور برفضه قرر الجنرال ان هذا الرفض موافقة عامة على الدستور وامعانا في السخرية من الوطن والشعب بموجب دستور الجنرال الخاص الذي فرضه بقوة السلاح تحول من قائد عام للجيش الى (عضو دائم مدى الحياة) في مجلس الشيوخ ذلك المجلس الديمقراطي الذي يمثل المؤسسة التي دمرها الجنرال عام 1973. ولاول مرة شاهد الناس الدموع في عيني الجنرال وهو يودع مكانه على رأس المؤسسة العسكرية التي استخدمها في تنفيذ احلام سادته, لانه لم يكن يحلم شخصيا بشيء سوى قضاء فترة خدمة عسكرية هادئة, وقف باكيا اثناء تسليم عصا القيادة, او عصا التعذيب كما اسماها الشعب اعتقد من شاهد الدموع انها دموع الجنرال النادم على ما فعل او دموع (التماسيح) التي اطلقها البعض على الدموع التي سالت من عيني تمساح كان يعاني من عسر الهضم اثناء التهام الضحية, ولكن عندما سألوا الجنرال عن معنى تلك الدموع اكد انها ليست هذه او تلك بل هي دموع البكاء على السلطة لان الجنرال على قناعة بانه (مندوب العناية الالهية) للوطن وضحاياه لم يكونوا بشرا بل ضحايا على مذبح سلطته لان (دموع الجنرال لا تبكي احدا) . وامعانا في تعذيب ضحاياه بعد التمثيل بجثثهم اكد ان المقابر الجماعية التي تم اكتشافها لم تكن تمثيلا بالضحايا بل كان دفن تلك الجثث على هذه الطريقة (اقتصادا في النفقات) واصحابها مكتوب لهم ان يموتوا لينعم القتلة بالهدوء. في كل هذه الفوضى التي تعيشها التشيلي تحت ظل جنرال قتل رئيس البلاد المنتخب, ومثل بجثث ابناء الوطن, ليجلس في النهاية كعضو مدى الحياة في مقعد يمثل قمة الديمقراطية, هناك من يعتقد انه من الممكن وقف السخرية من الشعب وتحرك هؤلاء في محاولة لعقد محاكمة سياسية للجنرال يمكن ان تلقي به بعيدا عن اعين ضحاياه الذين يشاهدونه يوميا على كرسيه ساخرا منهم لكن يبدو ان الامر ليس بهذه السهولة, لان المحكمة الدستورية لا تملك اصدار حكم يسمح للجماهير في التشيلي باستعادة هدوءها لان اعضاء هذه المحكمة عملاء للجنرال, الذي اختارهم للجلوس على كراسيهم قبل ان يتبوأ هو مقعده في مجلس الشيوخ, وعلى الذين يرفضون وجوده في مؤسسة ديمقراطية ان يغادروها. الجنرال كان وسيظل الى ان يموت كابوسا يغزو ليالي ابناء شعب التشيلي لان الخيانة لا تزال تجد عشا لها في جيش يقوده جنرالات تعلموا من الجنرال العجوز ان الخيانة ليست شرا, بل يمكن ان تكون طريقا لأعلى منصب في البلاد, وان دموع الجنرالات لا تبكي احدا. كاتب مصري مقيم في اسبانيا*

Email