أبجديات: عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مجالات الحياة كلها, يختلف الناس في نظرتهم للتفوق, وفي تقييمهم وتعاملهم مع المتفوقين. وفي مدارسنا حيث تلوح امارات التفوق مبكرا يتحرك ابناؤنا ـ ولنقل أغلبهم ـ بعقيدة (ان الأهم هو المرور من عنق الزجاجة سالما) . بمعنى اخر فان الجموع الساحقة التي تسعد برؤيتها تنهمر كصباح رائق على بوابات الحلم والمستقبل في كل نهار مدرسي, تردد همسا: ليس مهما ان تكون الاول او تكون الاخير, ان تكون عبقريا او تكون غبيا, طالما حظيت بختم (ناجح) آخر العام. وبهذه العقلية ـ للأسف ـ يتحرك طوفان الموظفين صباحا الى اعمالهم, والعمال, واصحاب كل الحرف والهوايات والوظائف, والاحلام المؤجلة, المتأرجحون بين بدايات الذكاء ونهاية العبقرية. عندما كان أخي يواصل خطوات حلمه الجميل في امريكا, كان كما عرفته دوما مجتهدا لانه كان على قناعة تامة بأن النجاح ليس قضية حظ او عبقرية, انه يتوقف على الاستعداد الصحيح والتصميم الذي لا يقهر. لذلك حاول أحد اصحاب عقيدة (عنق الزجاجة) ان يقهر ذلك الحلم النبيل في داخله بجملة اغواء شيطانية نقلها لي قائلا: (ذلك الشاب الذي يدرس شيئا ما من الدراسات التي لا تكلف جهدا أو وقتا ولكنها تضمن شهادة في اخر المطاف, مكث معي وقتا, كان يردد علي دائما وهو يراني منهمكا على كتب الهندسة (لماذا تتعب نفسك هكذا؟ أتظن بأنهم سيجعلونك وزيرا للاسكان, صدقني انا الذي أقبض على الكتاب كالقابض على الجمر وانت أيها المسكين العابد للكتب, سنتعين في الوظيفة ذاتها, وبنفس الراتب). قلت له: اطلب منه فورا ان يغادر شقتك او غيّر عنوانك بسرعة المهم ألا تجعله يلوثك بعقائده الباطلة هذه, وقد فعل. يقفز احدهم ليقول: هذه قضية لايمكن تعميمها, واصحاب الرضا بالامر الواقع ممن لا طموح لديهم امر واقع وفي كل مكان وزمان. فتتساءل: ماذا اذا كان اغلب من تسمع بهم, او تعرفهم يتحركون بهذه الذهنية, فهل يعني ذلك, اننا نراوح في مجتمع محكوم بانعدام الطموح ومحرم عليه تفجير الطاقات الحاضرة بكل خسائر الانفجار المحتملة, ام ان خمائر التحرك والاعتقاد الخاطىء كامنة في نصوص القوانين واذهان المشرعين المتحركين بعقيدة (ان الثبات على الامر الواقع فضيلة)؟ ويسألك احدهم بيأس ظاهر: اين ذهب كل الذين تخرجوا من الجامعات والكليات والمعاهد والدورات بتقدير امتياز, اين ابداعاتهم ونبوغهم؟ لم نسمع عن مخترع او مكتشف او مبدع فذ من هؤلاء الممتازين, لماذا؟ لانه منذ صارت قوانين الخدمة المدنية كألواح السومريين منحوتة بالمسمار على طين جف منذ قرون, ومنذ تساوى المبدع مع الخامل تحت شعار (المواطنة) المظلوم والذي يراد له ان يكون قوسا لنصر يصنعه المخلصون ويتمتع بانجازاته كل القادرين على الادعاء والتمسح بأوراق الهوية الرسمية, ما عاد للابداع مكان, وما عادت الوظائف اكثر من مصدر رزق لا اكثر. ان ذلك الفتى الذي اراد ان (يضل) اخي, له امثال كثر يتحركون بعباءة (المواطنة) لكنهم في الحقيقة يلبسونها بالمقلوب, طالما ان القوانين تسمح بذلك.

Email