اسرائيل والتسوية والحسابات الاوروبية: بقلم- رياض ابو ملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الملاحظ ان الجولة التي قام بها رئيس المفوضية الاوروبية جاك سانتير على عدد من دول المنطقة بهدف تحريك عملية التسوية السلمية المتوقفة لم تترك اي اثر يذكر على الرغم من الدور الرئيسي والمهم الذي يضطلع به الاتحاد الاوروبي في دعم المساعي السلمية, لا سيما على الصعيد الاقتصادي في المجالات السياسية المختلفة ولا يبدو ان سبب هذه النتيجة السلبية انشغال الدول المعنية بالمشكلة العراقية فقط, وإنما حرص اسرائيل, وهي الطرف الاساسي المعني بالزيارة وببرنامجها, على التعامل مع المسعى الاوروبي باسلوب ينم عن عدم اكتراث متعمد وعن تبرم يكاد يبلغ حد الرفض الصريح لكل ما يصدر عن المجموعة الاوروبية. ومع ان هذا الموقف ليس جديداً, اذ عبرت الحكومة الاسرائيلية مراراً عن رفضها ما تسميه (الانحياز الاوروبي) لصالح العرب واكدت تمسكها بالرعاية الامريكية وحدها للعملية السلمية, دون تدخل من اي طرف آخر, الا انه يأتي في وقت بدأ فيه الاتحاد الاوروبي يعيد النظر في حساباته القديمة, وذلك انطلاقاً من النتائج السلبية التي حصدها حتى الآن في كل محاولاته الرامية الى اكتساب موقع سياسي في شؤون المنطقة يتناسب مع دوره الاقتصادي المتميز واسهاماته المالية الاساسية. فقد استبق الاتحاد الاوروبي ايفاد مبعوثه جاك سانتير باصدار تقرير مهم اعده خبراء المفوضية الاوروبية حول المآل الذي انتهت اليه العملية السلمية بين بعض الدول العربية واسرائيل والوضع السائد في المنطقة حالياً, ثم النتائج التي حققها الدعم الاقتصادي الاوروبي المقدم لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني في اطار تشجيع العملية السلمية والمساهمة في إرساء أسس اقتصادية واجتماعية تساعد على انجاحها. التقرير الاوروبي جاء انعكاسا طبيعياً واميناً لواقع الحال ففضلاً عن انه تضمن ارقاما تفصيلية تبين حجم الدعم الذي قدمه الاتحاد الاوروبي للمناطق الفلسطينية المشمولة بالحكم الذاتي والبالغ ــ منذ انعقاد مؤتمر واشنطن للدول المانحة عام 1993 ــ ملياراً ونصف المليار دولار, من اصل مليارين وثمانمائة مئة مليون دولار تعهدت الدول المانحة بتقديمها, ومقابل 280 مليون دولار فقط قدمتها الولايات المتحدة, فقد تحدث التقرير عن مسؤولية اسرائيل الرئيسية بالنسبة لفشل التسوية السلمية ووصولها الى طريق مسدود, وتأسيساً على هذه المعطيات, المعززة بالارقام والوقائع, دعت المفوضية الاوروبية الى (إعادة تقويم الحوار بين الاتحاد الاوروبي واسرائيل) , كما طرحت تساؤلات قلقة حول امكانية الاستمرار في تقديم الدعم المالي الاوروبي, بوتيرته الحالية, من دون تحقيق اي نتيجة ايجابية, باستثناء تجنب الانفجار. من الواضح ان ما يقلق الاتحاد الاوروبي, الى جانب مسألة فشل التسوية السلمية في حد ذاتها, امور رئيسية عدة, ابرزها: ــ اولاً: ان استمرار الصراع العربي ــ الاسرائيلي يؤثر سلباً على الشراكة الاوروبية ــ المتوسطية, ما يؤدي تلقائياً الى نسف المشروع الاوروبي الكبير الرامي الى اقامة حيز للسلم والاستقرار في المنطقة المتوسطية في آفاق عام 2010 تنعدم فيه النزاعات والتوترات او تتقلص على نحو يخفف من ضغوط الهجرة والمشاكل الأمنية والاجتماعية المتداخلة التي تستشعرها دول المجموعة الاوروبية من بعض المناطق المتوسطية. ونظراً لفشل التسوية السلمية المطروحة منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وتعذر تحقيق اي لقاء عربي ــ اسرائيلي بهدف بحث شؤون التعاون او التنسيق المستقبلي ــ بعد التجربة الفاشلة لمؤتمر الدوحة, نوفمبر 1997 ــ فقد بات واضحاً ان اية محاولة جديدة يقوم بها الاتحاد الاوروبي لاعادة الروح لنشاطاته المتوسطية سيكون مصيرها الفشل, تماماً كما حدث خلال مؤتمر مالطا (ابريل 1997) وكذلك الحال بالنسبة لعدة لقاءات ثانوية عقدت بعد ذلك ضمن الاطار نفسه. ــ ثانياً: ان اي وساطة يقوم بها الاتحاد الاوروبي ينبغي ان تحظى بموافقة ورضا طرفي المشكلة وبتعاون كامل منهما. بيد ان ما يحدث هو عكس ذلك تماماً, اذ بينما تبدي الاطراف العربية ترحيباً شديداً بالدور الاوروبي, تتعامل معه اسرائيل والولايات المتحدة بسلبية شديدة بما يظهره وكأنه تطفل على عملية التسوية, ومحاولة للتشويش على الدور الامريكي. وفي هذا الجو المفعم بالشكوك وعدم الثقة يتعذر على الاتحاد الاوروبي تحقيق اي انجاز بالنسبة للمهمة التي يضطلع بها. ــ ثالثا: تجد المجموعة الاوروبية ان الاستمرار في تعطيل دورها السياسي في اطار عملية التسوية السلمية يجعل من دوها الاقتصادي وكأن هدفه فقط التغطية على السياسات الاسرائيلية السلبية وتعويض الخسائر المادية التي تتسبب بها سواء داخل مناطق الحكم الذاتي او في المنطقة العربية باكملها, من دون تحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة. ومن الطبيعي الاعتقاد بأن مثل هذا الوضع لا يمكن ان يستمر على هذا النحو الى ما لا نهاية. ــ رابعا: عندما يتحدث تقرير المفوضية الاوروبية عن (اعادة تقويم الحوار) بين الاتحاد الاوروبي واسرائيل تتبادر الى الاذهان على الفور مسألة ممارسة الضغط الاقتصادي على اسرائيل لحملها على التخفيف من تعنتها. وعلى الرغم من ان رئيس المفوضية الاوروبية نفى وجود مثل هذا التوجه لدى الاتحاد الاوروبي الا ان الجانب الفلسطيني طرحه على الاوروبيين اكثر من مرة كمحاولة للخروج من المأزق الراهن, كما ان بعض المصادر الاوروبية تتحدث عنه باعتباره الخيار الذي لابد منه للتغلب على العقبات الراهنة التي تضعها اسرائيل. ان الاتحاد الاوروبي يواجه احد خيارين في تعامله مع المشكلة: فإما ان يلجأ الى الضغط الاقتصادي على اسرائيل اذا فشلت التوجهات الاخرى, واما ان يوقف دوره الاقتصادي ويمتنع عن تقديم المساعدات المالية لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني وهذا يعني ــ بكلمة اخرى ـ وقف دوره السياسي والانسحاب من الرعاية الحالية للتسوية السلمية ــ على محدوديتها ــ مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج تتعلق بوجوده وبنفوذه في المنطقة. فهل يفعل ذلك؟ بعد ان تهدأ الازمة العراقية ويراجع كل طرف حساباته القديمة سيكون على الاتحاد الاوروبي ان يواجه هذا الواقع الصعب, مع إضافة عناصر جديدة اليه يجب استخلاصها من الطريقة الخاصة التي جرى استخدامها في التعامل مع اسرائيل (خلال المواجهة الحالية مع العراق), الامر الذي ادى الى اظهارها في مظهر الطفل المدلل او الفتى المشاكس الذي يغفر له الآخرون كل ما يأتيه من افعال شاذة وما يرتكبه من حماقات. كاتب لبناني مقيم في باريس *

Email