فضوها سيرة! بقلم- جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ستنسحب اسرائيل من جنوب لبنان ــ شاءت أم أبت ــ لانها لا تملك خيارا آخر. هذه حقيقة تعرفها اسرائيل جيدا, وتعرفها امريكا واوروبا, وتعرفها سوريا , ويؤمن بها اللبنانيون. لكن الجهة الاساسية التي ينبغي ان تعي الدرس وتراجع الموقف على اساسه, مازالت غائبة منذ ان اضاعت اوراقها في اوسلو.. ثم جلست تنتظر (كرم) الآخرين!!! ذات يوم قال ياسر عرفات (رضينا بالهم, والهم لم يرض بنا. كان عرفات قد ادرك انه قدم ما يجوز ومالايجوز التنازل عنه, ولم يحصل الا على أقل القليل. كان يتصور ان الطريق للدولة الفلسطينية قد انفتح ــ عن طريق اوسلو ــ فاذا باسرائيل تغلق الابواب والشبابيك وتفرض الحصار وتطلب منه ان يتحول الى مجرد رئيس جهاز لحفظ الامن.. الاسرائىلي! وبعد عملية العراق الاخيرة, وماكشفته من غضب الرأي العام العربي من عداء امريكا غير المبرر للعرب وانحيازها المبرر والمؤكد لاسرائيل. تصور البعض ان جهدا سيبذل ــ بعد هدوء العاصفة ــ لانقاذ الوضع واستئناف مسيرة السلام الشهير بــ (سلام الشجعان) . وان امريكا ستحاول انقاذ مصداقيتها في المنطقة فتفعل اي شيء لانقاذ مصالحها التي ستكون الضحية الاولى في اي انفجار قادم. لكن ما يجرى حتى الآن لايبشر بخير..فنتانياهو يرفض تنفيذ الالتزامات القليلة التي فرضتها على اسرائيل اتفاقيات اوسلو المأسوف على شبابها والضغوط الامريكية مجرد اشاعة. ونتانياهو يقوم بفاصل من (الاكروبات) السياسية التي لاتستهدف الحل, وانما تستهدف صرف الانظار عن حقيقة مايجري على الارض من تكثيف للاستيطان واذلال للفلسطينيين, وتكديس للاسلحة التقليدية وغير التقليدية, واعتبار كل القرارات الدولية مجرد حبر على ورق اذا كانت تتحدث عن حقوق العرب الضائعة واوطانهم المغتصبة. وكل الذكريات السياسية التي يقوم بها نتانياهو وحلفاؤه لا تقدم جديدا, وليس لها من هدف الا اضاعة الوقت, ومحاولة اظهار ان (عملية السلام) مازالت على قيد الحياة. مع ان العالم كله يدرك ان (العملية) ماتت وشبعت موتا, وتنتظر منذ سنوات من يقرأ عليها الفاتحة ويواري جثمانها التراب. واذا كان نتانياهو يضيف الى(الاكروبات) الآن مزيدا من الوقاحة فيهين وزير الخارجية البريطانية لانه تجرأ وخاطب الفلسطينيين وهو يزور جبل ابو غنيم في القدس, فعنده الف حق (!) مادام قادراً ــ بمباركة امريكا ومساندتها ــ على فرض منطق القوة وابتلاع الارض المحتلة واغتصاب القدس الاثيرة. واذا كان السفاح شارون يهدد باغتيال خالد مشعل بعد فضيحة المحاولة الاولى الفاشلة لاغتياله. فما الذي يمنعه اذا كانت امريكا مازالت تصر على ان عصابة اسرائىل هي واحة الديمقراطية وعنوان التقدم. واذا كانت اسرائىل تسمح لجنودها بضرب المواطنين الفلسطينيين بالرصاص فلابد ان نجد لها العذر اذا كانت الامور قد وصلت الى ان تعرض على عرفات ــ بعد عناء ووساطات ــ ان تنسحب من 1% من الضفة الغربية, وفي مقابل هذا التنازل الهائل (!!) فإنها تطلب الغاء الميثاق الفلسطيني ــ والقبض على نصف الشعب الفلسطيني بدعوى انهم ارهابيون ــ مع التعهد بعدم المطالبة بالانسحاب من اي شبر آخر من الارض الفلسطينية الى ان تنتهي مفاوضات الحل النهائي.. اذا بقى هناك شيء للتفاوض عليه!! ولان المطلوب فقط هو تسلية المتفرجين حتى يتم فرض الامر الواقع, يقوم نتانياهو بالقفز البهلواني من الساحة الفلسطينية الى الساحة اللبنانية ليعرض الانسحاب من جنوب لبنان الذي تحول الى مقبرة لجنوده. ويعرف نتانياهو ويعرف الوسطاء والحلفاء ان احدا لم يمنع اسرائيل من الانسحاب لكن هذا الانسحاب لايمكن ان يكون بشروط تفرضها اسرائيل. وهذا هو الدرس الذي تعلمه اللبنانيون من تجربة عرفات المأساوية بعد اوسلو.. وهذا هو الدرس الذي لقنته للجميع المقاومة اللبنانية التي لم تلق السلاح ولم تسمح لزعمائها بتقديم التنازلات, وفرضت على اسرائىل (التفاوض) باللغة الوحيدة التي تفهمها ... وهي لغة المفاوضة بالمدافع. والعرض مستمر.. والوسطاء يذهبون ويجيئون, والحديث لا ينتهي عن خطورة الوضع وضرورة التحرك لانقاذ عملية السلام. ولكن ماهي الحصيلة لكل هذه التحركات؟ لاشيء حتى الآن, ولا شيء بعد ذلك. وزير الخارجية الفرنسي (جاب من الآخر) كما يقولون. وقال بحكمة بليغة ان عملية السلام (تموت خنقاً.. شكر الله سعيكم فقد كنا نظنها تموت شوقا) !! وزير الخارجية البريطاني جاء الى المنطقة ليحاول ان يمحو آثار الموقف المخزي لبلاده في قضية ضرب العراق. حيث ظهرت كذيل للسياسة الامريكية متصورة ان هذا طريقها الوحيد للحصول على نصيبها من (الكعكة) التي تريد امريكا الانفراد بها. وقد لقى الوزير البريطاني من اهانة الاسرائىليين مالم يلقه مسؤول آخر, ومع ذلك فقد ابتلعت حكومته كل الاهانات, وتظاهرت بالحكمة, واكتفت بأن أوصلت رسالتها الى العرب تمهيدا لرحلة رئيس الوزراء البريطاني الى المنطقة, والتي يحاول فيها ترجمة مواقف حكومته الى صفقات تجارية وعسكرية تدعم الميزانية البريطانية. لقد كادت خناقة الوزير البريطاني في القدس والضجة التي صاحبتها ان تذكرني بالخناقات المفتعلة التي يثيرها بعض النشالين في ميادين القاهرة المزدحمة, ليكتشف المتفرجون بعد ذلك انهم قد تم نشلهم, لولا اني تذكرت ايضا ان العرب لم يعد لديهم ما يستحق عناء النشل! ويبقى السؤال: اذا كانت بريطانيا تؤمن حقا ان القدس عربية وان المستوطنات الاسرائىلية جريمة لابد من ايقافها, فلماذا لا تترجم ذلك الى موقف سياسي مسؤول؟ ولماذا لا تتقدم بقرار يطلب من اسرائىل ايقاف الجريمة وتطبيق قرارات الامم المتحدة والا تم فرض العقوبات الدولية عليها؟ لماذا لا تفعل معها ما كانت تصر على ان تفعله مع العراق مع ان خطأ العراق قد توقف, بينما الجرائم الاسرائىلية مستمرة... وستستمر؟! وكوفي عنان يأتي للمنطقة فيؤكد للجميع انه لا يحمل مبادرات ولاينوي الوساطة, وان قرارات الامم المتحدة نحو العراق شيء وقراراتها بشأن اسرائيل شيء آخر.. والشيء ليس لزوم الشيء, وعلى المتضرر أن يلجأ لأمريكا فهي وحدها التي عندها الحل والربط! وأمريكا المشغولة بفضائح رئيسها تزرع الآمال بأنها ستتقدم بمبادرة جديدة تحقق المعجزة وتعيد الحياة لعملية السلام, ثم تعلن في النهاية ان المبادرة ليس فيها جديدا, وتطالب الاطراف المعنية بتضحيات.. وهو ما يعني في لغة الواقع انها تطالب العرب بالمزيد من التنازلات لاقناع اسرائىل بأنهم يريدون فعلا السلام معها فتتعطف وتتنازل وتقبل الانسحاب من 1% من الضفة الغربية! وكلينتون الآن في جولة افريقية, ولابد أن الادارة تضع يدها على قلبها خشية ان يمارس الرئيس هواياته المعروفة خارج الحدود. اما ما يهمنا فهو أن أحد اهداف الرحلة هو اظهار المساندة والتأييد للدول المحيطة بالسودان والتأكيد على دعمها بالسلاح الامريكي.. خاصة بعد الاعلان عن خطوات للتقارب بين القاهرة والخرطوم لمواجهة حرب المياه التي تحاول امريكا واسرائىل اثارتها حول مياه النيل. ورغم ذلك كله فمازال البعض يراهن على (السلام الامريكي) الذي سيظلل المنطقة ويجلب الرخاء.. وهو رهان بدأ منذ 25 سنة ونتائجه لم تعد تحتاج لدليل.. نهبوا الثروة العربية, وضربوا القوة العربية, ووضعوا الامة العربية تحت الحصار. فيا أيها السادة العقلاء الحكماء.. فضوها سيرة! فنحن في عالم تحكمه القوة وتحركة المصالح.. وامريكا التي تعامل العرب بكل هذا الازدراء, هي نفسها التي تقدم التنازلات للصين, وترفع الحصار عن كوبا, وتفتح ابواب الحوار مع طهران, وتهرب من المصيدة في لبنان كما تحاول حليفتها وربيبتها اسرائيل ان تهرب الآن, بعد ان تحول الجنوب الى مقبرة لجنودها. (رضينا بالهم) قالها عرفات في لحظة ندم, فهل قال لنا لماذا رضى بالهم؟ وهل ادرك فداحة الثمن؟ وهل كان يتصور ــ ولو للحظة واحدة ــ انه سيحصل على أي شيء حقيقي بعد ان يلقي السلاح؟!

Email