أصحاب الدوار: اسطورة جزائرية: بقلم - د. عبدالله عبدالرحمن سعيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل ايام, وضعت احدى الصحف الجزائرية عنوانا رئيسيا لصفحتها الاولى تساءلت فيه: هل يجب علينا ان نرمي جميع الاطارات الجزائرية في السجن ؟ والمغزى من هذا العنوان هو ان المؤسسات العامة, كبرى كانت ام صغرى.. والتي كانت تقع عليها مسؤولية السهر على الاقتصاد الجزائري, قد اخلت بعهدتها, ونتيجة لسوء الادارة والفساد.. وصلت بذلك الاقتصاد الى الهاوية. انا اذكر ان الشاذلي بن جديد, وقبل ان يقال من قبل الجيش, قال في احدى خطبه الرسمية المعلنة, وبمناسبة اجتماع ضم تلك الاطارات, بان من بين اربعمائة مؤسسة عامة هناك سبعين فقط شبه متوازنة اما الباقي فيعاني من الافلاس, وبصفته في ذلك الحين رئيسا للدولة.. ربما كان (يعاتب) اطاراته, مجرد عتاب على خيبة الامل, وعلى اساس ان (فضيحة) الافساد قد باتت مكشوفة. اليوم وبعد اكثر من سبع سنوات على (ترحيل) الشاذلي فإن الحال, على مايبدو, ليست افضل مما كانت عليه, لسبب جوهري بسيط هو ان اطارات الامس هي ذاتها اطارات اليوم, بعضها في القمة ومازال في القمة ومن كان في القاعدة مازال في القاعدة على اساس ان (المسيرة) لم تتبدل, فمن الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني) الى الحزب الواحد (التجمع الوطني الديمقراطي ومن الفساد وسوء الادارة الى الفساد وسوء الادارة. من يعرف الجزائر من الداخل لابد وان يكتشف بان (القانون) طالما تم تعويضه بـ (عصبية الدوار) التي يمكن ان تشرح, وبكل بساطة, بالولاء القبلي ولانها حقيقة لامراء فيها فإنها مازالت قائمة رغم شعارات الديمقراطية والحريات. والواقع ان عصبية الدوار هي من تفتقات نظام الرئيس بومدين, وهي اعلى درجة من ديكتاتورية الحزب الواحد, وكأن الحزب الواحد هو مجرد ارتكاز في القاعدة لمن هم في القمة, خاصة وان هؤلاء في القمة يشكلون دائرة مغلقة لايدخلها الا (من هم منهم وفيهم) ولان الامر كذلك فإن جميع المسؤوليات السياسية والادارية.. اي الاطارات التي تسير وتشرف على مسيرة البلاد, هي من اصحاب الولاء لعصبية الدوار, تقرر لحسابها وتتصرف لحسابها.. واستنادا الى المعيار القائل بأن (المنصب) هو منصب شخصي, يدار بمزاج وانانية الى درجة الاسراف. الشعب الجزائري قد تحمل طويلا مأساة عصبية الدوار التي يمكن التأكيد بأنها هي نفسها التي فجرت الاحداث الدموية.. او احداث الارهاب, التي بدأت على وجه التحديد في الخامس من اكتوبر 1988 لتعلن بصوت جهور (لا.. لديكتاتورية عصبية الدوار) اما بالنسبة لانتخابات 25 ديسمبر 1991 فقد اعتبرت مجرد بصيص من الامل في نهاية النفق, وفتح الشعب بواسطتها مطالبة ولاول مرة, بشكل حر ومستقل, الا ان من كان في السلطة, ولانه شعر بأنها (النهاية) فقد الغيت الانتخابات, ودفنت الديمقراطية حفاظا على مصالح اصحاب الدوار. لقد ارتكب الشاذلي بن جديد خطأه الفادح, والاخير عندما اتجه لتضييق الخناق على هذه المجموعة التي دعيت رسميا (المافيا الادارية والسياسية) ونحن هنا لانريد ان نقول بان الشاذلي قد كان حسن النية, فعلى العكس ان اقتناعاته بشأن الاصلاحات الدستورية انما كانت من اجل بقائه في المنصب, وكأنه اراد الحفاظ على مصالحه على حساب مصالح اصحاب الدوار.. الا ان هؤلاء قد تمكنوا من اصطياده قبل ان يتمكن هو نفسه من اصطيادهم, وهنا بالاحرى تكمن اسرار المأساة الدموية التي ليس هناك اي مخرج لها الا عن طريق معالجة عملية وفعالة, لا على طريقة الشاذلي بن جديد ولكن على طريقة الشعب, فالكلمة يجب ان تكون للشعب الجزائري قبل ان تكون لاصحاب الدوار. اصحاب الدوار قد لقنوا (الغير) درسا من خلال ازاحتهم للشاذلي الا ان الدرس التالي قد كانت ضحيته (محمد بوضياف) فالشاذلي قد (اقتنع) بالاستقالة الا ان محمد بوضياف لم يقتنع بان يكون مجرد صوره في الواجهة تحركها اصابع من هم وراء الستار, وهنا يكشف الدرس عن وجهه الثاني الاكثر دموية الذي يبدو انه على اطلاع كامل عليه الرئيس الامين زروال عندما يشتد الخناق فإن البحث عن الخلاص لايهتم بطبيعة الوسائل, وهكذا اصحاب الدوار, فبعد ان وصلت بهم الامور الى نقطة اللارجوع.. هاهم يقررون حتى تقسيم (رحمة الله) على مزاجهم, وهكذا فان رئيس مجلس الوزراء ومن على منبر البرلمان الجزائري, هو الذي اعلن الفصل بين ابناء (الشعب الواحد) اذ بالنسبة اليه, وعندما اعطانا لمحة عن فاتورة الارهاب, فقد ذكرنا بان الضحايا من المدنيين هم (قتلى) اما الضحايا من قوات الامن فهم (شهداء) علما ان هؤلاء وهؤلاء هم من هذا الشعب, ومن ابسط ما يضمه هذا الشعب سواء كانوا من الضحايا المدنيين أم من قوات الامن خاصة وان هذه الاخيرة هي المسخّرة اصلا, ورغما عنها, للدفاع عن اصحاب الدوار, ولو كانت لهم قدراتهم على التعبير لتبرأوا من هؤلاء.. ومن دون تردد ايضا. كما هو ملاحظ, فإن الاطارات الساهرة على السياسة والادارة معا في بلد المليون ونصف المليون شهيد, لم تتبدل لا في لغة الخطاب ولا في لغة المعالجة ولا في لغة الادارة, كل شيء لها وكل شيء من اجلها.. ولا غرابة هنا فطالما ادعى (اصحاب الدوار) بانهم هم الذين فجروا الثورة ضد الاستعمار الفرنسي وهم الذين جلبوا الاستقلال,ولوحدهم من دون باقي الشعب الجزائري.. اذن فإن استبدادهم وطغيانهم واحتكارهم للسلطة لامناص منه, فهم الذين وضعوا المبررات وهم الذين يتمسكون بها وبالحقائق.. حتى لو اضطروا الى (اعدام) مليون ونصف المليون, ومن القتلى هذه المرة لا من الشهداء اذا ما عدنا الى ما مر وعلى لسان او يحيى. الجزائر ضحية اصحاب الدوار, منذر اكثر من 35 سنة, ورغم ان مؤشرات للنهاية لايلوح منها شيء بعد في الافق الا ان لكل بداية نهاية.. ولكل اجل (كتاب) وبالانتظار فإن الشعب الجزائري هو الذي يسدد من دمائه.. وكأن مرحلة الاستعمار ما انفكت تطبق على الانفس والقلوب. لقد بدأت الاسطورة منذ عام 1965 اي بعد الاستقلال بثلاث سنوات فقط, واذا ما كانت انتخابات ديسمبر 1991 قد تمكنت من فتح نافذة ظلت طويلا محكمة الاغلاق الا ان هذه النافذة سرعان ما اغلقت باحكام اكثر خاصة وان اصحاب الدوار قد تمكنوا من لعب دور الميكافيلية بكل اتقان.. ساعدتهم في ذلك ظروف داخلية وخارجية. في كل الاحوال فإن ساعة الانفجار التي بدأت في الخامس من اكتوبر 1988 لابد وان تتجدد, وعاجلا او اجلا على اساس ان (التأجيل) انما هو مؤقت فقط, واصحاب الدوار هم ادرى من غيرهم بهذه الحقيقة.. وهذا بالاحرى ما يفسر دموية الاحداث. بقي ان نعرف بان اصحاب الدوار هم الذين اقترفوا جريمة التفرقة الجهوية, بين شرق وغرب ووسط, وهم الذين استبدلوا الولاء للوطن بالولاء للدوار! كلية الشريعة والقانون ــ جامعة الامارات *

Email