الإحباط ومسيرة التسوية (1-2) بقلم - د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستحق العبارة التي قالها بنيامين نتانياهو في الاسبوع الماضي الترشيح والمنافسة للحصول على لقب نكتة الشهر. وقد كانت تلك العبارة تعليقا على تصريحات للرئيس ياسر عرفات , والتي حذر فيها ان عملية السلام ستنهار لا محالة, وذلك بسبب الموقف الاسرائيلي من الالتزام بالاتفاقيات المبرمة مع الفلسطينيين في اوسلو. تعليق نتانياهو تضمن اتهاما غير مباشر لصاحبه وشريكه في السلام بأنه يروج لنظرة تشاؤمية إزاء مستقبل السلام, وهي نظرة لا مبرر لها!, حيث ان كل شيء (تمام), ويسير على ما يرام. وفي تصريح طريف آخر, دعا نتانياهو الفلسطينيين الى الاقتداء بتجربة الاردن في مسألة السلام مع اسرائيل, وذكر في الوقت نفسه بأن ثمار السلام من رخاء ورفاه, والتي جناها الاردن يمكن ان تكون من نصيبهم كذلك! اليس هذا كاف لدفع التشاؤم ونبذ أهله؟! لم يشر نتانياهو ـ بالطبع ـ الى اوصاف تلك الثمار, ولم يبين كذلك مر تلك الثمار الذي كان من ـ نصيب العرب ـ وحلوها الذي استأثر بها الاسرائيليون وتمتعوا بها حيث انهم كانوا الطرف الأقوى في مفاوضاتهم مع العرب مما اتاح لهم صياغة شكل الاتفاقيات, وفرض الشروط التي تتفق مع اهداف الدولة العبرية. نعود إلى تصريحات الرئيس ياسر عرفات, والتي احسب إنها جاءت بعد مسلسل طويل حافل من التعلق بسراب السلام. وجاءت كذلك بعد مرحلة طويلة, لم تستطع خلالها الابتسامات والمصافحات المتبادلة التي كانت تتم بين أطراف العملية (السلمية) ان تتغلب على الواقع الحافل بمظاهر البؤس والمرارة. وهو الواقع الذي لا يمكن تجاهله او تناسيه, كما لا يمكن تجاوزه او القفز على جروح ضحاياه, والذي بدأ باغتصاب الارض وطرد السكان وممارسة الظلم والعدوان, في صور لا تليق بإنسانية الانسان وكرامته في اواخر القرن العشرين. بسبب من ذلك, لم يحقق التظاهر بالسلام اي اثر ذي قيمة, له مردوده على الفرد الفلسطيني, بل وأصبح الترويج للسلام ـ حسب الوصفة الاسرائيلية ـ لا يخلو من مخاطر ابرزها تهديد الهوية العربية وكيانها في تلك الارض والى الابد خاصة اذا كانت تلك العملية تضفي في نهاية المطاف المشروعية على الكيان الغاصب ولعل هناك العديد من الاسباب التي تدعو للتحفظ على (السلام) المعروض واحسب أن الاسباب ذاتها هي التي دعت بعض الفلسطينيين الشرفاء من مؤيدي السلام, بل ومن المسهمين فيه, الى التراجع عن المسار الذي خاضوا فيه, وذلك بعد أن أدركوا ان هناك خطوطا حمراء قد تم تجاوزها وان فخا اسرائيليا منصوبا قد تم استدراجهم اليه وهو ما حدا بالدكتور حيدر عبدالشافي احد كبار المفاوضين السابقين, ورئيس الوفد الفلسطيني في المفاوضات التي جرت مع الاسرائيليين في احرج فتراتها وذلك في مؤتمر مدريد في عام 1991 وما بعده, الى اطلاق صيحته الاخيرة بأن المفاوضات الحالية تخدم اسرائيل, وتمهد لتوسيع المستوطنات ولن تفرخ سلاماً. وقد ذهب الدكتور عبدالشافي الى ابعد من ذلك عندما رفض مجرد الجلوس الى الاسرائيليين, واعتبر أن الجلوس مع الاسرائيليين حول طاولة المفاوضات لم يعد مجديا, لان استمرار مفاوضات (اللاجدوى) ـ حسب تعبير الدكتور عبدالشافي ـ تخدم المصالح الاسرائيلية, وتعطي انطباعا مزيفا بان الامور على ما يرام, وتمهد السبيل لاغتصاب المزيد من الاراضي وتوسيع المستوطنات (صحيفة البيان 8/3/1998). هذه الصحوة تمثل ـ بلا شك ـ تحولا مثيرا وهاما, لكنه طبيعي, وذلك بالنظر الى ما اسفرت عنه تلك المسيرة التي انطلقت في مدريد في عام 1991. حيث استدرجت الاطراف العربية الى تلك المفاوضات, دون وجود تنسيق عربي كاف وكفيل باستمرار مسار تلك العملية, بشكل يحقق الاهداف الاستراتيجية للأمة. وقد اسهمت الاحداث والظروف التي سبقت مؤتمر مدريد, واعقبت الغزو العراقي للكويت, ثم حرب الخليج الثانية, في إعداد المناخ المناسب لتمرير تلك العملية, بل وأسهم كذلك في دخول العرب تلك المفاوضات من منطلق (اللاأساس) , اذا جاز لنا استخدام هذا التعبير. حيث لا معايير ولا شروط ولا غايات تحددها خطة استراتيجية تقوم على استعادة الحقوق, فضلاً عن معاقبة المعتدي, بل ولا وضوح في التعامل مع الطرف الآخر, ولا شك ان اغتيال الذاكرة كان هدفاً اساسياً في التعامل مع الحالة الصهيونية. ومحاولات اغتيال الذاكرة العربية تعني التعامل مع تلك الحالة بذاكرة ممسوحة, دون استحضار ملف الجرائم الصهيونية الملطخ بالدماء, الحافل بالانتهاك. في ظل تلك المحاولات, جرى التعامل مع الطرف الآخر, ليس باعتباره طرفا مغتصباً او معتدياً, بل مقابلاً ومساوياً للطرف العربي, وتراجعت ـ في ظل ذلك ـ الاوصاف التي اعتادت الذاكرة العربية على اطلاقها على الطرف الصهيوني منذ نكبة عام ,1948 وحلت محلها صفات مثل شركاء السلام, وأبناء العمومة! قد جاء ذلك في اطار الانقلاب المثير الذي شهدناه في دلالات المصطلحات ومفاهيمها في سنوات (السلام) . ولكن الواقع المرير الذي يئن تحت وطأته فلسطينيو الداخل, اثبت ان كل تلك الشعارات لم تكن الا اوهاما. واثبت زيف السلام والتطبيع. وفي اجواء الاحباط كان من الطبيعي كذلك ان يتريث الكثيرون على هرولة البعض نحو التطبيع السياسي والثقافي والعسكري مع اسرائيل. وهو التطبيع الذي نجد له تسويقاً ـ ليس سياسيا ـ فحسب, بل أن نفراً من (المثقفين) قد حمل لواءه, ناعياً على المتحفظين موقفهم الداعي الى التريث. كما كان من الطبيعي ان يلجأ فلسطينيو الداخل تحت وطأة ـ الجوع والاذلال ـ الى خيار مشروع آخر, يتمثل في حق مقاومة الاحتلال وإزالة آثاره. ولعل اللجوء الى هذا الخيار المشروع, كان بعد الفشل الذريع لمحاولات التطبيع الذي لا يمكن تبرير الترويج له, وذلك بعد ان اصطدمت بالواقع شعارات الترويج للتطبيع كثمرة للسلام, والتي يرفعها عادة دعاة التطبيع, والتي ما انفكوا يلوحون بها في سبيل التسويق لبضاعتهم الكاسدة, ولم يفت (المطبعين) ان يعظوا الفلسطينيين بالقناعة بما جادت به الاتفاقيات عليهم, والتسليم بالواقعية, مع التحذير من العواقب الوخيمة ان هم فرطوا في فرصة السلام التي اتيحت لهم والافدح من ذلك كله, ان يسعى بعض (المناضلين السابقين) الى الترسيخ لمبدأ الواقعية وفقا للمفهوم المتقدم, واحسب ان هذا الامر بحاجة الى وقفة اخرى, وذلك لبيان اللبس الذي يدور حوله. وكبل كلية العلوم الانسانية - جامعة الامارات*

Email