التكاثر الفلسطيني من أسلحة الدمار الشامل: بقلم- شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الولايات المتحدة, ولاتزال, وستبقى إلى اشعار لا يعلم موعد نهايته الا الله, وفيّة على عهدها ببقاء اسرائيل متفوقة عسكريا على كل الدول العربية , ولا يشك اي معهد من معاهد الدراسات الاستراتيجية العسكرية بأن ما في الترسانة الاسرائيلية من اسلحة, كما ونوعا, ما يؤكد هذا الالتزام الامريكي, ويضاف اليه ما هو مخزون لديها لحساب القوات الامريكية المسلحة, وما يمكن تزويدها به وقت الحاجة, عبر الجسور الجوية وفق الاتفاقيات المتعددة والمتكررة. وليس سرا على احد مدى ما وصل اليه التعاون بين وزارتي الدفاع الاسرائيلية والامريكية في مجالات الاستخبارات العسكرية, والربط الاليكتروني بين غرف العمليات, ومراكز الرصد والانذارات المبكرة, مما يؤهل اسرائيل لتوسيع شعاع تفوقها وصولا إلى اواسط آسيا وافريقيا. والالتزام الامريكي بضمان تفوق اسرائيل العسكري على العرب وغيرهم فيما يسمى بالشرق الاوسط لا يقتصر على الاسلحة التقليدية في البر والجو والبحر, وانما يتجاوز ذلك إلى ما يسمى باسلحة الدمار الشامل, وذلك عبر اسلوبين, باتا مكشوفين: الاول, يمنح اسرائيل الغطاء السياسي الكامل لتطوير برامجها في تصنيع هذه الاسلحة بالرغم من كل الاتفاقيات الدولية التي تحظر ذلك, والثاني: بمنع العرب من دخول هذا النادي بدءا بالضغوط الاقتصادية والسياسية والامنية وصولا إلى العمل العسكري المباشر ـ كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى العراق ــ أو غير المباشر كما فعلت اسرائيل عندما اغارت على المفاعل النووي العراقي في عهد اسحق شامير. اسرائيل اليوم تمتلك كل انواع اسلحة الدمار الشامل, النووية والكيماوية والبيولوجية, كما تمتلك وسائل المقاومة المضادة لهذه الاسلحة. وعلى الرغم من مسرحية الهلع التي شاهدناها في اسرائيل خلال آخر ازمة عراقية, ونداءات الاستغاثة التي اطلقتها لاستيراد المزيد من طواقم صواريخ (باتريوت) وغيرها, ومشاهد الناس المحتشدة للحصول على الالبسة والاقنعة الواقية من هذه الاسلحة, مما اثار سخرية المعارضة ودفعها لاستجواب الحكومة واتهامها بترويع السكان, على الرغم من هذا كله, فان حقيقة ما تخشى منه اسرائيل ويثير هلعها, ولن تجد سبيلا لردعه لا بالصواريخ ولا بالالبسة الواقية هو قنبلة متواضعة تسمى القنبلة الديمغرافية الفلسطينية. وبينما كان نتانياهو يتلهي بمسرحيته, كان المحللون الاستراتيجيون في اسرائيل, يعكفون وهم في منتهى الكآبة, على دراسة التقرير الذي صدر عن دائرة الاحصاء الفلسطينية حول اعداد الفلسطينيين في الضفة والقدس والقطاع دون ان يتعرضوا لاعداد الفلسطينيين داخل اسرائيل. من المؤكد ان النتائج التي كشفتها عملية الاحصاء هذه لم تكن مفاجئة لاسرائيل, ولكن كشف ما كانت تكتمه من معلومات وما حاولت ان تبقيه سرا من اسرار الدولة, كان المفاجأة الكبرى. تقول النتائج الاولية, ان عدد الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي تجاوز الثلاثة ملايين نسمة, منهم 1.869.818 فلسطينيا, اي نحو المليونين يقيمون في الضفة, و1.02.813 فلسطينيا, اي نحو المليون, يقيمون في القطاع, وهناك 325.000 فلسطيني, وربما اكثر, لم يشملهم التعداد يقيمون خارج البلاد ويتمتعون بحق الاقامة, فاذا اضفنا إلى هؤلاء اعداد اخوتهم المقيمين داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948, يصبح العدد الاجمالي للفلسطينيين المقيمين في فلسطين (المعروفة بحدودها ايام الانتداب) حوالي اربعة ملايين نسمة, مقابل اربعة ملايين وسبعمائة الف يهودي, هذا, ويقدر الخبراء بان هذا العدد مرشح لان يتضاعف خلال اقل من خمس عشرة سنة. وانا اطالع ارقام هذا التقرير, تذكرت ما ورد على لسان جولدا مائير, في حديث صحافي لها عن مستقبل الصراع العربي ــ الاسرائيلي بعد حرب اكتوبر 1973, اذ قالت بالحرف الواحد, (اني اعاني من كابوس مستمر كلما خطر ببالي عدد الاطفال العرب الذين يولدون يوميا في (ارض اسرائيل)) ! ولا شك في ان هذه الصهيونية العجوز كانت قد ادركت اين تكمن نقطة الضعف القاتلة في المشروع الصهيوني, وهي كيفية الاحتفاظ بفلسطين من دون فلسطينيين, وكان هذا الادراك نتاج تجربة طويلة جربت خلالها اسرائيل كل انواع المجازر والارهاب والاغتيال الجماعي بقصد ترويع الفلسطينيين وتهجيرهم من دون جدوى. ولما كانت جولدا مائير من طلائع الصهاينة ومن اكثرهم حماسة لصهيونيتها وابرزهم وعيا وحنكة بفضل تجاربها, فلقد استشعرت العجز عن حل هذه المشكلة, فتحولت عندها إلى هاجس نفسي وكابوس ليلي. ويبدو ان شيمون بيريز الذي تربى في ظلالها, كان من اوائل من تلقفوا اشارتها, وادرك بأن مستقبله يكمن في قدرته على ايجاد المخرج الكفيل بحل هذه المشكلة بأقل الاثمان الممكنة, وبشكل يمكن تسويقه بين طرفي الصراع ولاسيما بين بني قومه ورفاق حزبه. لذلك, عندما توفرت اللحظة التاريخية المناسبة يفرض الخيار التفاوضي على العرب واليهود, كان بيريز جاهزا لالتقاطها, واستطاع الموقف السياسي الاسرائيلي المستجد وكأنه جزء من تطلع جديد للمشروع الصهيوني, وكلنا يذكر مدى ما ارتفعت اليه اسهم بيريز رغم حرص رابين المستمر على تحجيمه, وكيف طغت كتاباته ومحاضراته على كل ماسواها وكأنها نبوءات عهد جديد تحل فيه الهوية الجيواقتصادية محل الهوية الوطنية والقومية. ليس المراد هنا مناقشة بيريز حول افكاره, بعد سقوطها, ولكن لابد من الاشارة الى انه سمح لنفسه بان يحلم بامكانية اخراج اسرائيل من مأزقها المستقبلي ــ كابوس مائي ــ وبتطوير المشروع الصهيوني بالقفز عن الحدود التوراتية الى آفاق الاقليمية والعولمة, وتحويل اسرائيل من (غيتو) محاصر لتصبح في المنطقة العربية كما نيويورك في الولايات المتحدة. كان يرى ان الهيمنة المستقبلية للتفوق الاقتصادي والتكنولوجي وليست للاحتلال او التفوق العسكري. كان بيريز ينشد ــ كما كان يردد ــ اقامة السلام والتخلي عنه اكثر فداحة من الحرب, وكان يعتبر ان موضوع القدس قد تم حسمه وان العرب لم يترددوا بقبول حل يحفظ ماء الوجه بالنسبة لمقدساتهم, كما كان يعتبر ان عملية التطبيع مع العرب كفيلة مع الزمن باغراء الفلسطينيين للتوجه الى حيث مرافق العمل ومشاريع التنمية الجديدة, مما يعني في النهاية توطين معظمهم خارج فلسطين, وربما ايضا بعض من يقيمون في اسرائيل, كان بيريز يؤمن (بالترانسفير) التدريجي المدعوم بحوافز اقتصادية ويرى في اسلوبه هذا ما يضمن تحقيق الحلم الصهيوني ببقاء اسرائيل احادية القومية. وكانت هذه احد اهم نقاط الخلاف بينه وبين المتطرفين من اليهود المتدينين ومن يمين الليكود اليميني اصلا, وكان يعتمد بالترويج لاسلوبه هذا بلغة سياسية معاصرة تحرص جهدها على الابتعاد عن اللغة السياسية التلمودية, ولذلك اغتيل رابين وفشل بيريز في الوصول الى الحكم ليحل محله الممثل الحقيقي للمجتمع الاسرائيلي الذي لايزال يعيش الحلم ــ الكابوس باقامة الدولة اليهودية وفق توجهات هرتزل في بداية هذا القرن. المهم, لقد اعاد نتانياهو, وألف شكر له, الامور الى نصابها الحقيقي من دون تمويه او تزوير, مما اضطر ايهود باراك, خليفة رابين وبيريز, الى الاعتراف بان الصراع مع العرب هو صراع وجود لا صراع حدود, مما يثبت ان الخلاف بين العمل والليكود لا يتجاوز عملية الاخراج لتحقيق مضمون سياسي واحد. لنعد الآن من حيث بدأنا لنسأل عن الموقف الامريكي الملتزم بتفوق اسرائيل الابدي على العرب, وكيف سيتمكن من معالجة هذه المعضلة التي تفرضها القنبلة الديمغرافية الفلسطينية على الواقع. حتى لو اعتبرت الادارة الامريكية بان تكاثر الفلسطينيين هو في جوهره نوع من اسلحة الدمار الشامل لاسرائيل, فماذا باستطاعتها ان تفعل؟ هل يعقل ان تلجأ الى مجلس الامن, او حتى الى اتخاذ قرار ذاتي يطالب الفلسطيني بعدم الانجاب؟ ولو اتخذت مثل هذا القرار الكاريكاتوري فهل باستطاعتها ان تجد من يترأس لجنة تابعة لها لتقصي الليالي التي يجوز او لا يجوز فيها لرجال فلسطين ونسائها ان يمارسوا حقهم في التكاثر. حقا اننا في عصر المضحك المبكي, عصر الرئاسة الامريكية التي تعيش ازمة حزام العفة!!

Email