الرأي العام.. كلمة تقال: بقلم - د. عبد الله عبد الرحمن سعيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلنا اطلعنا على ان اغلبية معينة من الشعب الامريكي كانت قد أيدت توجيه ضربة عسكرية الى العراق وان هذه الاغلبية قد تجاوزت حتى الستين بالمائة , الا ان الاغلبية المؤيدة للرئيس بيل كلينتون في فضائحه الذاتية قد تجاوزت السبعين بالمائة, علما ان عمليات سبر الاراء قد كانت متوازية واجريت في وقت واحد ايضا, فما الذي يمكن ان تدلنا عليه مثل هذه الحقائق؟ مبدئيا, ولو كانت الازمة مستمرة مع العراق.. اي انها لم (تتجمد) بفعل اتفاق بغداد بين كوفي عنان وطارق عزيز لكانت النسب قد تغيرت, لانحو الاسفل انما نحو الاعلى, لتقدم لنا تفسيرا مباشرا عن نفسية الامريكي في عالمنا المعاصر, خاصة وانها نفسية قابلة للاحتدام بفعل تشجيع اصحاب القرار في الادارة الامريكية اولا, وبفعل مغالطات اجهزة الاعلام ثانيا, انطلاقا من انها اجهزة مأجور, واعدت لتقوم, بالمهمة التي تستند اليها.. بشكل جيد, الا وهي مهمة المشاركة في تكوين الرأي العام الامريكي عن طريق تضليله. ومن خلال اخضاعه لممارسات خداعية, تبدو لاول وهله بأنها صادقة مع انها في الاصل هي عكس ذلك. لنترك اخلاقيات بيل كلينتون على حدة, لنغوص في احتمالات الحرب التي جعلتها الدولة العظمى من اختصاصاتها, فالرأي العام الامريكي نادراً ما رفض الحرب لادارته, وصحيح ان الحرب الفيتنامية قد كان لها كثير من المعارضين الا انه قد كان لها ايضا الكثير من المؤيدين, ولو لم يكن (الانتصار) فيها قد خان واشنطن لسنوات لما هبط رقم مؤيديها عن رقم مؤيدي الحرب ضد العراق. لقد تبدلت ظروف الوقت الحاضر, وفيتنام ـ مثلاــ ان كانت قد وجدت من يؤيدها في حربها ضد واشنطن, ونقصد بذلك فيتنام الشمالية, من امثال الصين والاتحاد السوفييتي, ان العراق لم يجد احدا من مؤيديه لا يوم احتلاله للكويت ولا في سياق التوترات التي يصطنعها بين الفينة والاخرى لزعزعة استقرار المنطقة, ثم ان الاتحاد السوفييتي لم يعد له وجود (دولي) الامر الذي خول امريكا حرية الدخول في الحرب والخروج منها متى شاءت وكيف شاءت, وضد من شاءت ايضا. ولان الامر قد اصبح بهذه البساطة فإن الرأي العام الامريكي لم يعد يجد حرجاً في دعم قرارات الادارة في اعلانها للحرب.. حتى وان اختلفت النسبة احيانا, وهذه بالاحرى هي الحالة القائمة مع العراق. البيت الابيض يريد تطويع العراق, ومعظم الديمقراطيين في الكونجرس الى جانب جميع الجمهوريين, ومع ذلك فإن التناقض بين البيت الابيض واعضاء الكونجرس قد يكن في ان هؤلاء الاخيرين يتطلعون الى الاطاحة بصدام ــ عكس البيت الابيض. البيت الابيض قد اثبت حرصه على صدام لانه وحده الذي يمنحهم شرعية التواجد العسكري في المنطقة, ومن ثم شرعية تكييف قرارات مجلس الامن الدولي.. (على المزاج) واذا ما حاول اعضاء الكونجرس الدعوة للاطاحة بصدام فلأسباب انتخابية بحتة قد تنفصل تماما عن السياسية الخارجية واهدافها. منذ التدخل الامريكي في الصومال تعالت اصوات تطالب الحرص على التدخل.. والحرص ايضا على تجنب الخسائر, والخسائر البشرية قبل غيرها, وفي صفوف الجنود الامريكيين طبعا لا في صفوف المتدخل ضدهم سواء كانوا من العساكر ام من المدنيين على اساس ان الخسائر المادية يوجد من يعوضها, من غير امريكا طبعاً استنادا الى (توزيع الاعباء) كما حدث في حرب الخليج عام 1991 بينما لا يوجد من يعوض القتلى من الجنود الامريكيين, خاصة وان سقوط اكبر عدد منهم قد يفجر ثورة في الرأي العام الى درجة صحوته من الضلال والخديعة, وهذا مالا يبحث عنه اصحاب القرار في الدولة العظمى, ففي عام 1991 لم يتورع جورج بوش عن تأنيب الحكومة اليابانية علنا ورسميا لانها تقاعست نوعا ما ــ عن تحمل جزء من الاعباء الا انه لم يجد من يؤنبه للخسائر في ارواح جنوده, على قلتها, فكانت النتيجة اخراجه من البيت الابيض لحساب بيل كلينتون. لماذا اذن هذا الاصرار الامريكي على (كبت) العراق ومن ثم اعادته الى العصر الحجري, هل هو لحماية منطقة الخليج ام انه لحماية الكويت, في الحقيقة لا هذا ولا ذاك, ولولا انه في المسألة حسابات للربح والخسارة, المادية طبعا لا البشرية لما وجدنا اي اثر للتواجد العسكري الامريكي في المنطقة. فأي صاحب قرار في الدولة العظمى, من كلينتون الى اولبرايت الى كوهين الى بيرجر الى ريتشاردسون وغيرهم ,يمكن ان يخاطر بكل ما يقع تحت يديه من ماديات ــ شرط ان تكون معوضة ـ الا انه لا يمكن ان يخاطر بمنصبه, والمخاطر على المنصب ترتبط حتما بالمخاطرة بارواح القوات الامريكية. لو كان باستطاعة امريكا شن الحرب ضد الغير.. عن بعد لما قصدت بذلك ــ مثلما فعلت بهيروشيما مثلا اذا ان قنبلتها قد قتلت مالايقل عن اربعين الف مدني من دون ان تتكبد ولو خسارة جندي امريكي واحد. وهنا تكمن عقدة الذكاء الخارق التي لا يمكن ان تكون الا لدولة من مصاف الولايات المتحدة الامريكية. ورغم ان (عاصفة الصحراء) قد وصفت بانها عملية جراحية متقنة الا انها لم تكن متقنة بالمعنى الكامل للاصطلاح, لا لان العراق قد سقط فيها ما لايقل عن مائتي الف مدني ــ حسب بعض الاحصائيات طبعا ــ انما لان القوات الامريكية قد خسرت عدداً من افرادها, الامر الذي وضع جورج بوش في حالة من تأنيب الضمير, لا نظن ان بيل كلينتون على استعداد لتجربتها في النتيجة, ولان حرب امريكا ضد العالم لن تنقطع فان تكييف الرأي العام ليؤيد اصحاب القرار امر ضروري وتستلزمه (محطات الديمقراطية) في مجتمع الدولة العظمى, وحيث ان تلك الحرب (مستمرة) , فان الرأي العام لا يتكون صدفة ولا يمكن ان يترك للصدفة إنما هو مهيأ.. بل يجب ان يظل في حالة تهيؤ وتأهب لتقبل كل ما يعرض عليه.. من دون نقاش او جدل, فلا غرابة اذن التحدث عن (اغلبية) حاضرة لا تحتاج الا لبعض (الصقل) والتنميق.. ليلعب هنا عنصر الاثارة دوره الحاسم, وعلى اساس ان اي عروض امريكية حول العالم وقضاياه انما هي عروض فوق الشبهات. ببساطة اذن, إن تفرد القرار الامريكي بمقدرات الشعوب لا يمكن ان يخضع لاي تأويلات (ادانة) على الاقل من قبل الرأي العام الداخلي.. وعلى اساس ان الرأي العام الخارجي نادرا ما يعتّد به او يؤخذ بعين الاعتبار, وعلى سبيل المثال فقط حتى لو كان هناك اجماع عربي بشأن رفض الضربة العسكرية للعراق.. لم تتراجع امريكا عن تعنتها رضوخا او نزولا عند رغبة هذا الاجماع, رغم ان تراجعها ليس نهائيا انما هو مؤقت.. وما ابقاءها على تواجدها العسكري في المنطقة الا للتذكير بان ضربتها قد تكون قادمة لا محالة. من هذه الحقائق نستخلص بان القول بوجود تناقضات بين اصحاب القرار في الادارة الامريكية والرأي العام هو من باب العبث حقا, فالرأي العام الامريكي قد بلغ درجة من الاطمئنان على (فوقيته) لا يوازيها الا استمتاع الضعفاء بالذل والاذلال, وكأن كل من الطرفين راض عن مواقعه لا يفكر بشأنها بأي تعديلات مستقبلية. واستراتيجية توزيعية بهذا الشكل الموافق ليست جديدة ابدا, وهي ان كانت لها بصماتها خلال مرحلة الصراع بين الكتلتين الا ان هذه البصمات قد تفاقمت في ظل الاحادية القطبية, امريكا قد صعدت من اتباعها لسياسة الاذعان والاملاءات, في ذات الوقت الذي صعدت فيه الشعوب الضعيفة من الخضوع.. قولاً وعملاً. بقي شيء لابد لنا من التذكير به. انه فيما يتعلق بالرأي العام العربي, فامريكا عندما قلنا بانها لم تحترم (اجماعه) بشأن ضربتها العسكرية, التي لاتزال محتمله ضد العراق.. انما استندت الى ما هو قائم في حيز الواقع عربيا طبعا, ولو انه كان هناك ولو اليسير من الاهتمام تجاهه لما تطاولت امريكا ضده.. فعلى الاقل ربما كانت قد صنفته في الدرجة التي تلي الرأي العام الامريكي! كلية الشريعة والقانون جامعة الامارات *

Email