من البوسنة إلى كوسوفو هل تتكرر المأساة؟ بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل نحن بصدد مشاهدة حلقة جديدة من مسلسلات الاستئصال؟ وهل ستتوقف حلقات هذا المسلسل عند كوسوفو في البلقان؟ربما كانت الاجابة على مثل تلك التساؤلات تعتمد إلى حد كبير على هوية الضحية. وربما كذلك , لا تكون الاخبار التي تتواتر هذه الايام عن الوضع داخل اقليم كوسوفو جديدة؟ فالمؤشرات حول تصفية المسلمين في تلك البلاد, وما حولها برزت بقوة في اعقاب انهيار اتحاد جمهوريات يوغسلافيا السابقة, وتجلت المأساة في حملات التطهير العرقي والابادة الشاملة التي استهدفت مسلمي البوسنة والهرسك بشكل اساسي, تلك الحملات التي استمرت نحو اربع سنوات, كان العالم (الغربي) فضلا عن معظم (الشرقي) مكتفيا بمشاهدة صور البؤس والشقاء, التي حفلت بها تلك المأساة والغريب ان ذلك كله قد حدث في مكان أو محيط ارتفعت فيهما شعارات المساواة وحقوق الانسان, وفي زمان اعقب انهيار الاتحاد السوفييتي, وتحت ظل النظام العالمي الجديد! وفي العقد الاخير من القرن العشرين! ولم تكن التسوية التي انتهت اليها الازمة في البوسنة, وخفة حدة المأساة هناك, نتيجة صحوة ضمير غربية, بقدر ما كانت نتيجة يأس الصرب في تحقيق الهدف من تلك الحملات الاستئصالية, والذي كان اساسا هو محو الهوية الاسلامية هناك. اما في كوسوفو, فلم يكن اطلاق الرصاصات التي اصابت الصبي الالباني باهري كراسنكي, البالغ من العمر احد عشر عاما, هي الشرارة الاولى التي اشعلت حملة الاستئصال التي استهدفت مسلمي كوسوفو, بل ان للازمة الحالية جذورا اعمق من ذلك, بدأ بتفكك يوغسلافيا نفسها في كوسوفو عام 1989, وذلك عندما الغى ميلوسيفتش الحكم الذاتي الذي كان الاقليم يتمتع به, ووضعه مباشرة تحت سلطة جمهورية صربيا. ومنذ ذلك الحين, ولمدة تقارب تسع سنوات, اصبح مسلمو كوسوفو هدفا للحقد الصربي, حيث مورست الوان من التصفيات الجسدية والتعذيب النفسي, دون تمييز بين شيخ كبير, أو طفل رضيع, وقد اوردت بعض الصحف الغربية نماذج صارخة لذلك العدوان, منها قصة الشاب الالباني بنزيري (23) , والذي حاول مقاومة حملات البطش الصربية, الا انه نتيجة لذلك, قضى عشرة اشهر من التعذيب والتنكيل في السجون الصربية. وقد تعرض بنزيري لاساليب همجية اشتملت على الضرب, والتعذيب النفسي, والصدمات الكهربائية, بهدف اجباره على الاعتراف والابلاغ عن زملائه, الذين حاولوا مقاومة المعتدين الصرب (الخليج 6/3/98 عن التايمز) . الصرب وألبان كوسوفو وحقيقة الصراع بجانب اختلاف ثقافتي الصرب الارثوذكس والالبان المسلمين, تمثل كوسوفو اهمية خاصة للاولين (الصرب) فهم على ضآلة نسبتهم, (لا تتجاوز 10% في مقابل 90% هم من المسلمين الالبان) , يعتبرون اقليم كوسوفو وطنهم التاريخي والثقافي, لذا يريدون فرض نفوذهم وسيطرتهم على الغالبية العظمى من السكان المسلمين, وهم في سبيل تحقيق ذلك, مستعدون لاستخدام اي وسيلة متاحة, حتى لو كان ذلك عن طريق العنف والقمع والبطش. وقد كشفت الاحداث الاخيرة عن الوضع الذي كان سائدا خلال فترة (الصمت) في السنوات الاخيرة, ان منطلق الصرب في عدوانهم على مسلمي كوسوفو ثقافي بالدرجة الاولى, ولعل هذا الامر يفسره تورط افراد الصرب العاديين, في حملات الابادة والتطهير العرقي, يدعمهم في ذلك رسميون يمثلون الحكومة, وبمشاركة الجيش اليوغسلافي ووحداته, وقد صرح بذلك الامين العام للجنة حقوق الانسان في بريستينا, ولأهمية العنصر الثقافي في هذا الصراع, اشارت صحيفة يو اس اي تودي في 8/3/1998, ان الصرب يعتمدون كثيرا على الارثوذكس الروس للحد من اي اجراء صارم ضدهم, وقد كان هذا التنسيق منسجما مع ما ذكرته للانباء في الاسبوع الماضي من عدم موافقة روسيا على فرض مزيد من العقوبات على الصرب. عدوان الصرب والغرب في كوسوفو, كما كان الوضع في البوسنة والهرسك, لا يتوقع اي موقف حقيقي ذي قيمة لردع الصرب عن الاستمرار في العدوان, وربما كانت مسألة المصالح ستبقى هي المعيار الاهم في التدخل في هذا الشأن أو لا, فالاوساط الغربية العاملة قد لا تهمه شؤون الآخرين بقدر ما تهمه همومه اليومية وقضاياه الملحة, حسب الاولوية التي تحددها الاجندة الخاصة بها, حتى الاوساط الدينية التي كان من المفترض ان تولي هذه القضية شىء من الاهتمام, ولو من قبيل دواعي القيم الاخلاقية, لم تصرح بمسؤولية الصرب فيما يحدث هناك, فضلا عن مطالبتهم بوقف تلك الانتهاكات الظالمة. وباستثناء اصوات محدودة, اهمها الصوت الصريح الصادر عن خافيير سولانا, سكرتير عام حلف الاطلسي, الذي حمل رئيس الاتحاد اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفتيش, المسؤولية عن الوضع المتفجر, وطالب كذلك, باتفاق يتيح للالبان قدرا من الحكم الذاتي في اقليم كوسوفو. وقد ذكرنا سولانا بهذا الموقف الايجابي بتصريحاته التي اطلقها في يوليو 97, والتي قال فيها انه يقدر الحضارة الاسلامية ويحترم العالم الاسلامي. باستثناء هذا النداء, وبعض النداءات الاخرى التي لم تتجاوز القول إلى العمل, فيكاد الامر ان يكون مهيأ لاستمرار العدوان, على الا يعني ذلك بالطبع, اتساع رقعة الحرب المتوقعة, وامتدادها عبر البلقان بما يهدد بعض المصالح الحيوية للدول الغربية, ولعل هذا ما اثار مخاوف الولايات المتحدة من اندلاع تلك الحرب التي قد لا يمكن السيطرة عليها, أو ايقافها, وهو الذي دعا جورج بوش ثم كلينتون بالتهديد بالتدخل العسكري اذا لزم الامر ذلك. وعلى الرغم من ثبات هذه السياسة الامريكية والموقف الحازم للسيطرة على الموقف في البلقان, الا ان بعض المراقبين لا يعفون الامريكيين من الحملات الصربية الاخيرة, حيث فسر اولئك المراقبون دعوة الولايات المتحدة للزعماء الالبان إلى التنديد بالاعمال الارهابية, بمثابة اعطاء الضوء الاخضر لعدوان الصرب الاخير, حيث فهم من هذه الدعوة, ان ما يمارسه المسلمون الالبان من حق مقاومة البطش الصربي, ضربا من ضروب الاعمال الارهابية التي تستوجب قمعها والقضاء عليها. بسبب من ذلك كله, لا تبدو ثمة توقعات لها ما يبررها لوقف العدوان من اجل العدوان, حيث ان تجربة البوسنة والهرسك قد اثبتت بشكل واضح تراجعا لشعارات المساواة والحرية وحقوق الانسان, والتي ترفع حينا وتخفض اخرى, وذلك حسب دواعي المصلحة لا غير. في ظل ذلك كله ايضا, لا يتوقع ان تكون كوسوفو افضل من اختها, فالحالتان ان لم تثبتا مكافأة المعتدي, فانها بلا شك اثبتت السكوت على عدوانه, وهو امر لا يليق بحضارة تدعي العالمية وهي على مشارف القرن الواحد والعشرين. العالم الاسلامي والدور المتوقع اما الموقف الاسلامي من شأن البان كوسوفو, فهو موقف لا يختلف كثيرا عن الموقف من قضية فلسطين أو كشمير أو غيرهما, حيث اقصى ما يمكن يسهم به الكثيرون, هو اصدار بيان شجب أو استنكار, واذا بلغت الشجاعة مداها, فان تلك البيانات ترقى إلى مطالبة (المجتمع الدولي) بالتدخل لانقاذ مسلمي كوسوفو, وهي بيانات شبيهة ببيانات كشمير والشيشان وفلسطين, إلى آخر تلك القائمة الحافلة بالمآسي والنكبات. ويبدو ان الواقع المتردي غير قابل لانتاج اكثر من البيانات الشفهية, ولا شك غياب المشروع الحضاري للامة قد اسهم بقوة في هذا الخلل المشهور, والذي انعكست اثاره السلبية على كافة المجالات, ابرزها الخلل في ترتيب الاولويات والاهتمامات, لذا فانه لا يتوقع اي دور فاعل ومؤثر للعالم الاسلامي في شأن كوسوفو, ليس هذا من باب التشاؤم أو اليأس, وانما هو تشخيص للواقع الذي تخيم عليه اجواء البؤس والاحباط. بقى ان نشير إلى انه رغم تلك الاجواء القاتمة, فان هناك فوائد مستفادة من محنة كوسوفو, ومن قبلها محنة مسلمي البوسنة والهرسك, اهم تلك الفوائد ان ادراكا متزايدا, ووعيا فكريا بشأن الهوية الثقافية قد وجدا طريقهما إلى ابناء تلك البلاد, وقد اسهم ذلك إلى حد كبير إلى تعزيز الانتماء العقدي الاسلامي لدى المسلمين البلقان, وهو ما ادى بدوره إلى الاصرار على المحافظة على هذه الهوية من مخاطر الزوال أو التأثير على خصوصيتها, ولعل هذا الامر كان السبب الرئيسي في استماتة البوسنيين واستبسالهم في مواجهة موجات الاستئصال الصربية. وربما ادركت صحيفة التايمز هذا الامر عندما اشارت إلى ان هناك حقيقة يجهلها الصرب, وهي انهم كلما ازدادو بطشا وتعسفا في تعاملهم مع الألبان, فان جيش تحرير كوسوفو (المسلم) يزداد قوة, كما يزداد تأييد الشعب له. احسب ان في هذه الاشارة تعبيرا واضحا عن مدى صلابة موقف اولئك القوم, مما يضفي شيئا كثيرا من الاطمئنان على مستقبل تلك البلاد وأهلها, ومع ذلك, فان هناك ــ بلا ريب ــ مسؤولية عربية اسلامية تجاه اخوانهم في تلك البلاد. وربما استدعت تلك المسؤولية التفافة نحو نقذة المسلمين هناك, والعمل على تحسين اوضاعهم دون انتظار قيام الآخرين بهذه المسؤولية نيابة عنهم.

Email