مسلمو كوسوفو.. مسألة ضمير مرة أخرى : بقلم- د. حسن ملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

اقليم كوسوفو لن يستقل قريبا, فأمريكا هي التي قالت لا وأيدتها في ذلك الدول العظمى.. رغم انها دعت بلجراد للتفاوض مع المقاومة بشأن ايجاد حلول سلمية . اقليم كوسوفو لن يستقل غداً رغم ان اغلبيته الالبانية تتراوح بين 90 ــ 93% والسبب واضح طبعاً.. انها اغلبية مسلمة. وذات الشيء كان قد حصل في البوسنة, فعندما كتب ريتشارد نيكسون في مذكراته بان الغرب ماكان ليسمح بقصف سراييفو لو لم يكن سكانها من المسلمين.. انما قصد ان يقول بان هذا الغرب لن يسمح بتشكيل جمهورية اسلامية في حوض البلقان. حظوظ الشيشان لم تكن افضل من حظوظ البوسنة, وحتى الان فان حظوظ كوسوفو ستبقى معلقة بين السماء والارض.. والى اجل غير معروف ايضا, فالغرب ان كان قد اعترض على انشقاق الاقليم عن صربيا من اجل انضمامه الى البانيا.. فمن باب اولى ان يعترض على استقلاله بصفته جمهورية اسلامية. مقاومة الالبان قد كانت (مجمدة) في ظل ديكتاتورية الشيوعيين, الى ان بدأ التململ الحقيقي في عام 1989 وصحيح ان المقاومة لم تدخل بعد مرحلة العنف تماما الا انها قد اخذت تعطي مؤشرات واضحة بذلك, فلا غرابة ان يصف سلوبودان ميلوسيفيتش جماعة المقاومة بالارهابيين, اي جميع سكان الاقليم تقريبا باستثناء الاقلية الصربية. كما هو ملاحظ فإن المسألة متوازنة كل التوازن؟ والحقيقية ان المسلمين الالبان طالما شكلوا مجتمعهم المتميز بعيدا عن الصرب. وصحيح انهم كانوا قد حصلوا على وضع الاستقلال الذاتي بموجب دستور 1974 في عهد جوزيف بروز تيتو الا ان تنامي الروح القومية التي ترافقت مع تفكك الاتحاد اليوغسلافي قد دفعت بلجراد الى اجراء تعديل دستوري الغت بمقتضاه وضع الاستقلال الذاتي.. واعلنت حالة الطوارىء والاحكام العرفية (1989) . الا ان هذه الاجراءات قد ولّدت ردة فعل ــ إذ ان المسلمين الالبان لم يتورعوا عن اعلان جمهوريتهم المستقلة ــ سراً ــ في عام 1991 وانتخبوا لها ــ سرا ــ ابراهيم ريجوفا زعيم رابطة كوسوفو الديقمراطية, الان الجمهورية لم يعترف بها دوليا الا من قبل تيرانا ــ اي البانيا ــ ولم تجد من يسندها لابين العرب ولابين المسلمين. بلجراد تريد طمس اي شيء عن الهوية الالبانية,حيث في هذا السياق قد نقلت الالاف من اللاجئين الصرب من منطقة كراينا الكرواتية الى كوسوفو, ومازالت تتخذ مخططا سيتم بموجبه توطين حوالي مائة الف صربي, خاصة وانها كانت تمنح لكل عائلة صربية ترغب الاستيطان في كوسوفو خمسة هكتارات من الارض. ولان المسلمين الالبان لاينوون التخلي عن قوميتهم او ثقافتهم فقد انشأوا لانفسهم ادارة مدنية, موازية للادارة الصربية, ونظاما تعليميا.. ومجموعة من الخدمات الاخرى, في ذات الوقت الذي حرصوا فيه على التمسك بشعار المقاومة السلمية, خوفا من المذابح العرقية اذ حتى البانيا نفسها غير قادرة على مؤازرتهم او الدفاع عنهم.. فالبانيا لايزيد عدد قواتها المسلحة عن اربعين الف جندي اضافة الى ان جميع معداتهم من مخلفات الحرب العالمية الثانية. لقد بدأ الصرب في اتخاذ ترتيباتهم القمعية مبكرا, فمن الاعتقالات الواسعة في صفوف القوميين الالبان الى تجريد المقاومة من اسلحتها, الى احتكارهم لكافة المناصب الرفيعة والوظائف الرئيسية في ادارة الاقليم. صرب بلجراد يتمسكون بالاقليم انطلاقاً من زعم تاريخي قديم, اذ انهم يعتبرون كوسوفو ارضا مقدسة ذات صبغة قومية (سلافية) خاصة, ورغم انهم قد هزموا في عام 1389 على يد العثمانيين في موقعه (لاك بيرد) إلا ان هذه الهزيمة يجب ان لاتؤخذ بمعنى الهزيمة اذ انها هي التي مهدت الطريق لقتلاهم لبلوغ الجنة! ومن هذا المنطلق فان رئيس الكنيسة الصربية الارثوذكسية كان قد اعلن صراحة بان الاقليم (مركز روحي) للصرب وجزء لا يتجزأ من جمهورية صربيا الكبرى... لا يجوز التخلي عنه. الالبان المسلمون ليسوا من هذا الرأي ولانهم يريدون الخروج من السرية الى العلن فقد دعوا الى انتخابات عامة ليوم 22 مارس الجاري 1998 وعلى امل ايجاد حل سلمي لمسألة استقلالهم... او على الاقل لفت الانتباه الى معاناتهم تحت الجور الصربي. بلجراد طبعا ترفض ان تسمع شيئا من هذا القبيل. امريكا والاتحاد الاوروبي يلحون على سلوبودان ميلوسيفيتش بتطويق الاحداث المتفجرة و(التفاوض) مع المعارضة للخروج بحل سلمي لاشك بانها لا تود ان يتجاوز العودة الى وضع الاستقلال الذاتي الذي قد الغى عام 1989. الدول العظمى كانت قد رسمت اطارا امنيا للقارة جرى ارساؤه في مؤتمر الامن والتعاون الاوروبي بموجب ميثاق باريس لعام 1990 الا ان احداث البوسنة قد اثبتت عقم هذا الاطار وصحيح ان اتفاقيات دايتون قد اوقفت المعارك الا ان مؤتمر الامن والتعاون الاوروبي ذاته لم يتمكن بعد من فض الصراعات العرقية في حوض البلقان خاصة وان اكثر من دولة اقليمية هي طرف فيها فهناك النزاع اليوناني ــ التركي والنزاع اليوناني ــ الالباني والنزاع الالباني ــ الصربي وحتى النزاع الروماني المجري ومع ذلك فان (بقايا) الاتحاد اليوغسلافي تكاد تشكل البركان الاقرب للانفجار, ففي البوسنة نفسها, ورغم اتفاقيات دايتون فان السلام (المفروض) لم يتأصل بعد وهناك جملة من الاحقاد التاريخية الدفينة... حيث ان اية اقلية اثنية لم تبد استعدادها لتناسيها او التنازل عنها. في قضية كوسوفو تيرانا تتهم بلجراد بانها تسعى ــ دائما ــ من اجل (صربيا الكبرى) وبلجراد تتهم تيرانا بانها تسعى من اجل البانيا الكبرى وبالنسبة للاطروحتين فان الدول العظمى تؤيد بلجراد اكثر مما تؤيد تيرانا وعدة دول اقليمية تنظر بعين (العطف) والرضا الى صربيا الكبرى لا الى البانيا الكبرى واذا ما قيل بان تركيا قد تشكل الاستثناء الا ان تركيا لا تؤمن سياستها خاصة وانها تحاول ان تكيف اسلمتها لاقتراب اكثر من الغرب. وعبر التاريخ فقد تعاقبت على حوض البلقان امبراطوريات يونانية ومقدونية ورومية وبلغارية وبيزنطية وكانت الامبراطورية العثمانية اخرها اذ غزت اراضي مقدونيا عام 1371 وبلغاريا عام 1382 وصربيا عام 1389 حيث تمكنت من السيطرة لما يقرب من خمسمائة عام عرف الحوض خلالها عهدا من الاستقرار بفضل القوة... وقليل من المهارة الادارية. الامر الذي لم يعد موجودا في الوقت الحاضر... ولا مقبولا! ومع ذلك فان مسألة الفخ المنصوب للمسلمين تبقى قائمة فالغرب وروسيا ومجموعة الدول الاقليمية تساند (القومية السلافية) التي تحرض عليها حتى الكنيسة الارثوذكسية وفي حوض البلغان فان الصرب هم خير سفرائها وخاصة في مواجهة اية طفرة اسلامية او قومية مؤيدة اسلاميا. تيتو كان قد اعتمد على سياسة التفرقة والتشتيت بين الاعراق من صرب وكروات ومسلمين... وغيرهم من اجل ضمان بقاء ابناء العرق الواحد ضعفاء غير قادرين على التوحد او المواجهة ومع ذلك فان الفوقية قد كانت للصرب... وهي الفوقية التي اورثهم اياها الانهيار واذا ما اندلعت الصراعات مبكرا ودموية ايضا فان اغلب المحللين قد ارجعوها الى عدم وجود قيادة سياسية حازمة ادارت شؤون الاتحاد عقب وفاة تيتو. وهكذا فقد تدخلت المانيا الى جانب الكروات وروسيا الى جانب الصرب واذا ما تعاطف (المسلمون) مع مسلمي البوسنة الا ان البانيا لم تستطع ان تقدم شيئا لسكان كوسوفو... الذين يبدو وكأنهم قد باتوا مصممين على الاعتماد على انفسهم ولتفجير ثورة من الداخل تضع الجميع في النهاية امام الامر الواقع سواء تعلق الامر ببلجراد ام بالدول العظمى. تخاذل الغرب ولعبة المصالح هي التي حرضت على حمامات الدم في البوسنة بين صرب ارثوذكس وكروات كاثوليك وبين صرب وكروات معا... والمسلمين ولان الحرب هنا هي حرب دينية قبل ان تكون حربا حضارية فانها كذلك في كوسوفو ولا نظن ان الدول العظمى ستتدخل الا اذا ما تأكدت بان المجازر التطهيرية قد فعلت فعلتها واذا ما كانت روسيا واضحة في معارضتها لاتخاذ اي مواقف حاسم ضد صرب بلجراد فان غيرها من الدول العظمى الاخرى لن يكون اقل تحريضا على المواجهة... واستنادا الى تواطؤ مكشوف ايضا وخاصة من قبل بريطانيا التي كانت لها تجربتها المريرة في حرب البوسنة اذ انها غالبا ما بذلت جهدا هائلا لدى كل من فرنسا والولايات المتحدة لمنع اي تدخل (مشترك) لانقاذ السكان المسلمين من مصيرهم المأساوي. السناتور الامريكي السابق فرانك ماكلوسكي كان قد وصف الموقف الغربي في البوسنة بانه جاء مخيبا لامال كل الشرفاء في العالم. من جهته فان الباحث الانجليزي البروفيسور هاستينجز كان قد وضع قائمة بأسماء من يجب محاكمتهم بتهمة التواطؤ في المذابح العرقية... من هذه الاسماء دوجلاس هيرد ومالكولم ريفكند وزيري الخارجية السابقين واللورد اوين الوسيط الدولي. (جريمة) الالبان في كوسوفو اليوم هي ذاتها... فهم من المسلمين وحيث ان صرب بلجراد كانوا قد نجحوا في (اذلال) المنظمة الاممية والغرب ايضا في حرب البوسنة فان سلوبودان ميلوسيفيتش لم يقصر اذ حذرهم جميعا من التدخل في كوسوفو والتحذير قد كان مباشرا وجديا اي ان المسألة تبقى في النتيجة مسألة ضمير! كاتب سوري*

Email