البلاط اليهودي في البيت الابيض: بقلم- شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم أكن من مدمني نظرية (المؤامرة) في تحليل الأحداث, كما لم أكن من هواة تحميل (اللوبي اليهودي) لكل ما يصيبنا من شرور السياسة الغربية بشكل عام, والامريكية بشكل خاص, كما أني اعترف بكثرة ساورني الشك حول صدقية (بروتوكولات حكماء صهيون) ولطالما حاولت العزوف عن تصديق كل ماورد في كتب التلمود لهول ما فيها من لا إنسانية تصل حد الجنون . كنت باستمرار من انصار المقولة بان الصهيونية هي وليدة الايديولوجية الاستعمارية القائمة على التمييز العنصري وتفوق (الرجل الابيض) وانها ليست اكثر من اداة طيعة لتحقيق اهداف الدول الاستعمارية, وانه لا حياة لها بمعزل عمن يرعاها شأن أي كائن طفيلي مرتهن الوجود على كائن آخر. اكثر من ذلك, كنت اشعر احيانا بأن بعض التركيز العربي على اليهود يعتريه شبهة الرغبة في تبرئة الدول الاستعمارية خوفا منها, ولحرف الغضب العربي عن رأس الافعى ليصب جامه على ذيلها. ومازلت في حيرة من امري أراوح بين الرأس والذيل, مع استمرار قناعتي باستحالة الفصل بينهما. وكل ما طرأ على تفكيري, وبخاصة بعدما وصلت احوال قضية فلسطين الى ماهو عليه, هو ان علاقة الصهيونية بالاستعمار لم تعد علاقة تابع بمتبوع بقدر ما اصبحت علاقة شريكين, وان اسرائيل لم تعد مجرد قاعدة متقدمة لغيرها واداة طيعة لخدمة هذا التغير, الذي هو حاليا الولايات المتحدة الامريكية. اسرائىل اليوم هي شريك, وشريك لا يكف عن المطالبة بزيادة حصته من هذه الشراكة. ولعلها في هذه المرحلة بالذات, الشريك الاوحد للولايات المتحدة بعد تفاقم التناقضات بين الاخيرة وحلفائها التقليديين في اوروبا الغربية. وبالتالي لم يعد من الحكمة تشبيه الصلة بين واشنطن وتل ابيب بمثلها بين رأس الافعى وذيلها, والدقة تفرض وصف هذه العلاقة, او هذا التحالف بأنه اشبه بافعى ذات رأسين. والطبيعة على كل حال لم تبخل علينا بمثل هذا الوحش الغريب, وان كان نادر الوجود, بسبب حدة مافي تكوينه من تناقض لا يسمح في النهاية لبقاء غير رأس واحدة. ومن تابع حركة العلاقة بين واشنطن واسرائيل, منذ أن نشأت الأخيرة, يرى بوضوح انها كانت حركة دائمة التطور والنمو, وان المراقب يحتار في التمييز بين من كان من الرؤساء الامريكيين الاكثر عطاء لاسرائيل, ابتداء من هاري ترومان وصولا الى بيل كلينتون, بعد الاخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي تحكمت بعهد كل واحد من هؤلاء الرؤساء. ومن المؤكد ان حركة العلاقات هذه لم تكن تتقدم بتسيير ذاتي ميكانيكي وانما بجهد متوال ومكثف لليهود داخل الولايات المتحدة لا يقل قيمة عما بذلته اسرائىل من خدمات للمصالح الامريكية في المنطقة مكنتها من الارتقاء بدورها من عميل الى شريك. ومن اللافت أيضا, لمن يتابع تاريخ هذه العلاقة, ان اسرائىل ومن ورائها يهود امريكا, لم تقنع يوما بما احرزته من مكاسب, وان ما من رئىس امريكي, ومهما اعطى في عهده, الا وتم الاستغناء عنه في النهاية افساحا في المجال لرئيس جديد يحمل وعودا جديدة, ليبدأ من حيث انتهى سلفه. فمن كان يتوقع ان يقع بيل كلينتون, بعد كل ما قدمه لاسرائيل في فخاخ فضيحة كل ابطالها من اليهود؟ ماذا تريد اسرائيل ومعها اللوبي اليهودي من بيل كلينتون اكثر من تواطئه المحرج طيلة عملية التفاوض بين اسرائىل والاطراف العربية المعنية, مما ادى الى شللها رغم كونها ــ بداية ونهاية ــ مشروعا امريكيا؟ وماذا يمكن لأي رئىس امريكي وافد على الطريق ان يعمل اكثر مما عمل كلينتون مما لم يسبقه اليه اي رئيس سابق, مما أثار هواجس بعض القادة اليهود انفسهم خشية ردود فعل غير مرتقبة. فهل يجهل حراس النظام الامريكي ورعاته التقليديون ان في ادارة بيل كلينتون الحالية اكثر من اربعين يهوديا يحتلون ارفع المناصب ويسيطرون على مركز القرار؟ ومن بين هؤلاء اربعة وزراء, هم: مادلين اولبرايت للخارجية, وروبرت روبين للخزانة, ووليام كوهين للدفاع, ودان جليكمان للزراعة. واضافة الى اولبرايت فهناك في الخارجية خمسة يهود آخرين, اثنان منهما برتبة نائب وزير, هما: ستيورات ايزنستات ومارتن انديك, وثالث برتبة نائب وزير هو بيتر تارنوف. اما الرابع والخامس فهما كارين ادلر برتبة مدير, ودنيس روس الشهير برتبة مستشار لشؤون الشرق الاوسط. ويرأس مجلس الامن القومي اليهودي صمويل بيرجر وكذلك نائبه جيم شتاينبرج, بالاضافة الى ثلاثة اعضاء هم جوديت فيدر وصمويل لويس وستانلي روس. اما وكالة المخابرات المركزية, عصب الدولة الحيوي, فيرأسها كذلك اليهودي جورج تينيت. ومن اجل اليهود, من دون سائر الجاليات التي يتكون منها المجتمع الامريكي, يوجد منصبان يشغلهما يهوديان بالطبع, ويسميان ضابطي اتصالات واحد من الجالية اليهودية, وثان مع القادة اليهود, وهما على التوالي جاي فوتليك وماني جرانوولد. اما المساعد الخاص للرئيس كلينتون فهو جيف ايلار, والمساعد الخاص لزوجته فهي سوزان توماسيس, وكلاهما يهوديان. واذا تذكرنا ان نسبة اليهود في الولايات المتحدة لا تتجاوز نسبة 4% من مجموع السكان, في احسن الحالات, فان حصتهم في الحكم تفوق بما لا يتصوره العقل نسبة اي فريق آخر من الاقليات, بما في ذلك البروتستانت والكاثوليك, دون ان نشير الى من ينحدرون من جذور افريقية واسبانية وكاثوليكية وغيرهم من الاقليات القومية الاخرى. من الطبيعي ان يجد مثل هذا الكلام من يتهمه بمعاداة السامية رغم موضوعيته لانه يتناول (الهوية الاصلية) للانسان, كما يمكن اعتباره نوعا من (العنصرية) المرفوضة نظريا في الحياة الامريكية. وكان من الممكن ان ترهبنا مثل هذه التهمة لولا ان القائلين بها من اليهود يمثلون ذروة النفاق المفضوح. فهم ضد العنصرية في امريكا ومعها قلبا وقالبا في اسرائيل التي تصف ذاتها بانها دولة اليهود في العالم, مما لم تصف به أية دولة نفسها؟ ولكن المسألة ليست هنا, في هذا البازار اللفظي, وانما في جوهرها هي مسألة ولاء المواطن اليهودي المقيم في امريكا, هل هو للدولة التي يحيا فوق ترابها وينعم في ظلال ديمقراطيتها, ام للدولة الاحتياط التي يعمل من اجلها رغم ما تمثله من نقيض للمجتمع الامريكي؟ ولعل هذا الهاجس هو الذي يقلق بعض القيادات اليهودية كلما تطرفت الحكومات الاسرائىلية بمواقفها من التسوية رغم الانحياز التقليدي للحكومات الامريكية لصالح اسرائىل, ولهذا نرى الخبث في تحرك المنظمات الصهيونية ولجوئهم الى توزيع الادوار فيما بينهم وحرصهم على التواجد في الحزبين الحاكمين الكبيرين: الديمقراطي والجمهوري. غير ان هامش اللعبة اليهودية بدأ يضيق مع الزمن, وتصاعد الوزن اليهودي في حكم الولايات المتحدة الى حدود ماشاهدناه في تركيبة الادارة الراهنة. واذا كان بعض الساسة العرب يصرون على التمييز بين واشنطن وتل ابيب, او ما بين الصهيونية والايديولوجية الاستعمارية, فاني اعتقد ان الثغرة الممكن الافادة منها تكمن في اداء سياسي يحرص على ان يبرز التناقض بين المصالح الامريكية والمصالح الاسرائيلية, وهو عكس مانراه اليوم لدى بعضهم ممن سلموا بان اسرائىل هي بوابة امريكا وانهم بارضائها وبالتسليم بمشاريعها يضمنون رضاء واشنطن ويأمنون شرورها! على العرب إقناع الولايات المتحدة بان ضمان مصالحها لا يتأمن من خلال اسرائىل وتقويتها وممالأة مشاريعها, وانما على العكس من ذلك تماما وانه من شأن مثل هذ السياسة ان نضاعف من الكراهية العربية وان تهدد هذه المصالح بدلا من ان تحميها. وليس سرا على الولايات المتحدة ان الدول العربية التي تعتبرها صديقة لها والتي واكبت وسايرت واحيانا موّلت العديد من مشاريع السياسة الامريكية في أكثر من مكان في هذه الدنيا, لم تخف يوما رفضها للمشروع الصهيوني وليس باستطاعتها اخفاء ذلك. ويمكن اعتبار المملكة العربية السعودية المثال المناسب لهذه الحقيقة, وتاريخها منذ ايام مؤسسها المغفور له الملك عبد العزيز حتى يومنا الراهن يشهد على ذلك. ولكن الكلام وحده لا يجدي, وشاهدنا على ذلك التجربة اليهودية الناجحة الى حدود ما رأيناه في تركيبة الادارة الامريكية الراهنة. فاولا وقبل كل شيء, نحن نملك كل هذا الذي يسمى بالمصالح الامريكية في بلادنا, ولا يجوز في اي حال من الاحوال تغليب مصالح امريكا على مصالحنا لحساب طرف ثالث. وثانيا, لاننا نملك من العقول والقدرات والاموال ما يسمح لنا بكشف الحقائق عالميا واستقطاب القوى والمؤسسات والهيئات المدنية لتقف الى جانب الحق الذي هو لصالحها بقدر ماهو لصالحنا. فلنجرب.. فلعلنا نتأكد من ان عدونا هو ذيل الافعى لا رأسها, وان اسرائيل شيء والولايات المتحدة شيء أخر!!

Email