من اجل ان نصطاد القمر...! بقلم- د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

القاعدة, لديهم, هو ان يكون (التعلم) , واذا لم يتوفر التعلم هذا فان البديل هو نقيضه او مضاده (اللاتعلم) . ووفقا لهذا المنحى صيغ المصطلح الانجليزي . اما لدينا فالقاعدة ان تكون الامية ونقيضها او مضادها ليس التعلم بل (محو الامية) , او مكافحة الامية, ولهذا قد يكون ملائما ان نوظف مصطلح (الابجدية) لنعني بها تعلم مبادىء القراءة والكتابة, واعتبار تعلمها المنطلق لتعلم اوسع واشمل. ولعل العجب يحدق بك كما احدق بي, وان كل ما هو متوفر من ادبيات التعليم يشير الى تزايد الاعداد المطلقة للاميين على الساحة العربية. فهل كنا طيلة ما مرّ من سنوات نحاول اصطياد القمر فعجزنا بالرغم مما صرفنا من مال, وبذلنا من جهود, وطبعنا من كتب وكتيبات؟ ولنتأمل قليلا الصورة. ينص برنامج الامم المتحدة للتنمية في تقريره عن التنمية البشرية (1995) الى ان ما يقارب ثمانين مليونا من مواطني الاقطار العربية اميون, وتسعة ملايين طفل خارج التعليم الابتدائي. اما اولئك الذين يقفون منهم خارج التعليم الثانوي فيصل عددهم الى ما يقرب من خمسة عشر مليونا. وتحتل احدى الدول العربية المرتبة 144 بالنسبة لتعليم النساء, وهي بذلك تكاد ان تكون عند نهاية السلم الذي تحتل فيه الدولة رقم 174 القعر الاسفل منه. ومهما يكن لديك من شك في مصداقية هذه الاحصاءات, فان الصورة, اذا ما تأملتها, محزنة, ومحزنة جدا. ومن حقك وحقي التساؤل عن السبب او الاسباب فيما يمكن ان يوصف بلا تردد بالفشل او العجز. أكان ثمة وهم بتوفر القدرة على محو الامية او ما اطلق عليه (اصطياد القمر) أهناك خلل في التخطيط؟ الا تتوفر الارادة السياسية التي تجعل القضاء على الامية هدفا اساسيا؟ ايكون الامر متجسدا في اننا نجهل كيف نعلم,وان ادواتنا في تعليم الابجدية للكبار قاصرة؟ ولعلك تذهب على نحو ما اذهب, من اجتماع تلك الاسباب في مركب واحد. يرى بعض المعنيين في شأن الابجدية, ان هناك اضطرابا في تحديد من هو الامي. ان الاحصائي يحدد الامي بمن يقول انه امي. وهناك من يرى بأن الامية اوسع من معرفة حروف الهجاء, وكتابة الاسم, والاحاطة باشارات المرور. الحياة المعاصرة تتطلب اكثر من ذاك مثل قراءة اسماء الشوارع, وقراءة عدادات الكهرباء والماء, وكتابة الصكوك, بل وهناك من يقول بان الجهل بقراءة الصحف ضرب من الامية! وهذا امر يحملنا على التساؤل عمن هو غير امي. كم سنة يقضي المرء في المرحلة الابتدائية ليعتبر غير امي؟ أيعتبر من تعلموا في الكتاتيب غير اميين؟ ما الحدود المعرفية في السياسة والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والتي ينبغي على المرء ان يتجاوزها ليدخل في دائرة غير الاميين؟ وأظن ان كل تلك التساؤلات جوهرية, الاجابة عنها تكشف عن وضوح في الرؤية, وتبصر لمعالم الطريق. قد تقول من العبث التساؤل عن توفر الارادة السياسية, فلا يعقل ان تكون هناك دولة معاصرة. لا تجعل (الابجدية) شأنا من الشؤون العامة, بل يمكن القول ان الدولة التي لا تعنى بهذا الشأن تكون خارج العصر, عصر العلم والتصنيع والتكنولوجيا والمعلومات. وقد يكون الجوهر ليس في توفر تلك الارادة بل في ترجمتها الى واقع ملموس من برامج, وموازنات, وخطط, واعداد قائمين بالتعليم, وخلق المناخ العام الذي يجعل اتقان الابجدية أداة من أدوات الزمن المعاش, وغاية ترتفع بالمواطن الى انسانية فيها رجاحة العقل, ورهافة الحس, ورقة الوجدان, وكرامة الوجود. ونظرا لارتباط المصطلح باسلوب العمل وبرمجته, يبدو امرا له وجاهته في التدقيق بالمصطلح الذي تقع فعاليات محو الامية تحت مشمولاته. لقد كان ثمة توظيف لمصطلح (التعليم الاستدراكي) انطلاقا من استهدافه ما فات تعلمه في الصغر, وكان هناك استعمال لمصطلح (تربية الكبار) اعترافا بان الغاية هي اتاحة المجال فسيحا لمن تعثر حظه وهو صغير فلم ينل القسط الملائم من التعلم. وفي اطار العمل التربوي لليونسكو ترددت مصطلحات (تربية الكبار) و(تربية العمال) و(التربية الاساسية) , في حين يورد (هيلي) مدير شؤون تعليم الكبار بجامعة اديلايد في استراليا مصطلحات اخرى وهو يحاول متابعة تطور تعليم الكبار. من هذه المصطلحات (تربية الجماهير) و(التربية الشعبية) و(التربية الاجتماعية) و(التنمية الجماعية) . وفي الوطن العربي ساد لفترة طويلة مصطلح (التربية الاساسية) واعتبار محو الامية مرتبطا بالمهارات التي يضطلع بها المتعلم في ممارسته شؤون الحياة, كما يرتبط بالارتفاع بمستوى الحياة من ضرورة الحرص على شرب الماء نقيا, وضرورة اتقان خياطة الثوب, ورعاية الطفل, وتضميد الجرح. ان الفلاح يوظف في حرث الارض وزرعها أدوات يحسن به ان يعرف كتابة اسمائها, كما يعرف كيف يستعملها. وقد شرع استخدام هذا المصطلح بالانحسار ليظهر مصطلح (محو الامية الحضاري) . ولهذا المصطلح قصته! لقد كان وراء شيوع هذا المصطلح (الجهاز العربي لمحو الامية وتعليم الكبار) احد اذرع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. لقد ترأس هذه المنظمة من شاء ان يأتي بجديد مناديا بان الامر اوسع من التربية الاساسية, وانك لن تستطيع ان تمحو الامية في مكان ما الا اذا قمت بتطويره تطويرا حضاريا يمتد الى مجمل مرافق الحياة. ان الامية مظهر من مظاهر التخلف الحضاري, وليس بالوسع محوها الا اذا محونا التخلف, ومرت السنوات والمنظمة والجهاز يلوكان المصطلح, ويروجان له عبر منشورات وكتيبات, واعداد الاميين العرب في ازدياد (وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا) . وليس صعبا وضع اليد على مكمن التخلف في مفهوم (محو الامية الحضاري) اذ كيف يمكن ان تمحو الامية من خلال التطوير الحضاري في قرية من القرى؟ كيف تستطيع فصلها عن المجموع الحضاري الكلي للتراب الوطني؟ كيف تستطيع ان توفر لها الامكانات بمعزل عن القرى الاخرى؟ وبعد ذلك ما الوسائل التي توظف؟ ومن هو ذلك المعلم القادر على التطوير الحضاري؟ ان المشكلة كما تبدو لي, وقد تبدو لك كذلك, اكبر من مصطلح يرتجل, وان عملية (الابجدة) في بلد ما قد لا تخضع لمبادىء وطرق استعملت في بلاد اخرى. وبعد ذلك فقد ثبت ان الطرق التقليدية المتبعة في تعليم الصغار غير مجدية في تعليم الكبار, وان كتاب تعليم الراشد هو ليس كتاب تعليم الطفل, وان معلمي الصغار يجب ان يعدوا إعدادا خاصا مهنيا ونفسيا ليصبحوا قادرين على تعليم الكبار. وها انا اقرأ على وجهك التساؤل: وماذا ترى؟ لندع المصطلح جانبا, ولنعمل اولا على توفير المناخ العام لمحو الامية, لضرورتها, ولدورها في الوجود الانساني وتطوير الفعل البشري.ولنقم ثانيا بتعليم المعلم كيف يعلم الراشد. وبعد ذلك ليس لنا من مناص غير تطبيق نصيحة (لندمان) من ضرورة ارتباط التعلم بالعمل. فان كنت سياسيا, فلن يجديك الرضا بالفرجة على الحدث السياسي بل اشترك في السياسة لكي تكون معرفتك بها على قاعدة رصينة. ولن ينجح الفنان الا اذا مارس الفن, ومن يريد ان يتعلم السباحة فعليه ان يتعلمها ضاربا بكفيه وساقيه لجة الماء. واخيرا, لن يقف العمر حائلا دون تعلم الابجدية, وما فوق الابجدية وهل نسينا اننا امة اخذت على نفسها طلب العلم من المهد الى اللحد, واننا امة قالت بالتربية المستمرة وطبقها شيوخها عمليا رواة ومحدثين وشداة معرفة. وقبل ذلك وبعده. فتعليم الكبار وتعميم الابجدية ليس بالامر السهل. ان الجهد البراق لا ينفي تعقيده, والعلم باصطياد القمر لا ينفي ان اقدامنا مازالت وستبقى على الارض, وفي الارض منعرجات وسهول وجبال ومنعطفات. ومن اجل ان تكون خطواتنا على هذه الارض في منأى ما أمكن من التعثر يغدو حتما اقرار صناع القرار بأن محو الامية امر حتمي, وبخلاف ذلك سنبقى خارج هذا العصر. وهذا العصر له طبيعته وخصائصه وفي ضوئها يبدو مستحيلا اعتماد الطرق التقليدية في تعلم الراشدين حيث يقهر المعلم الاميين, ويقضي على اختياراتهم ويمنعهم من النظرة الناقدة. وهنا ينبغي الاستماع الى دعوة (فرير) من ضرورة القضاء على (ثقافة صمت المقهورين) اولئك الذين يغلب على امرهم في عملية التعلم بحكم ابتعاد تلك الثقافة عن اشاعة النقد, والحوار, والعلاقات الانسانية. انها ثقافة القهر والغلبة وبث الشعور بالنقص والتسلط. ان تعلم الراشد لن يكون الا عن اختيار, واختيار واع, وبغيره لن يكون. خبير اعلامي عربي*

Email