إجابة عن سؤال بريء! بقلم- طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألقى تلميذ في احدى المدارس بالعاصمة الاسبانية على معلمه سؤالا بريئا: هل انتهى عهد الامبراطوريات؟ بعيدا عن اجابة المعلم الذي فاجأه السؤال , فانه يبدو جزءا من تساؤلات مهمة يطرحها العديد من تلاميذ المدارس في اوروبا الآن كرد فعل لما يشاهدونه على شاشات التلفزيون حول الاحداث السياسية العالمية, التي تنفي ما يتلقونه من معلومات في المناهج الدراسية, تلك المناهج التي تتحدث عن انتهاء عهد الامبراطوريات في العالم باختفاء الامبراطورية البريطانية, وبعد ان توصل العالم الى تشكيل حكومة عالمية ترعى مصالح جميع الاوطان, لا فارق فيها بين الدول العملاقة والدول الصغيرة اسمها (الامم المتحدة) والتي بدورها شكلت لجنة لتصفية الاستعمار القديم, وانهت زمن الامبراطوريات. لكن الاحداث السياسية اليومية رغم انها لا تتحدث عن الامبراطوريات باعتبارها واقعا معاصرا, وانما واقعا تاريخيا انتهى وقته ودوره, الا انها تثير تفكير تلاميذ المدارس في اوروبا, الذين ينظرون الى معلميهم نظرة شك حقيقية عندما يسمعون هذا الكلام وكأنه حقيقة واقعة لا تقبل الجدل, خاصة في هذه الايام التي تكشفت لهم فيها حقائق مذهلة عن عالم الامبراطوريات الواقعي لا الخيالي كما هو الحال بالنسبة لليابان التي تعتبر البلد الوحيد في العالم الذي لا يزال يحتفظ لحاكمه بلقب (الامبراطور) . التلميذ الاوروبي اصبح يشك ان الامبراطوريات التي درسها في كتب التاريخ من الرومانية والبيزنطية الى الفارسية او الاسلامية باسمائها وواقعها المتعدد حتى العثمانية, وحتى الامبراطورية التي كانت اسبانيا مركزها, وعلى حطامها قامت الامبراطورية البريطانية ذهبت الى الابد كما تقول كتب التاريخ, ويشك ان سقوط تلك الاخيرة كان النهاية لعهد الامبراطوريات كما تقول تلك الكتب, بل يرى ان الاحداث السياسية العالمية التي يعيشها اليوم تؤكد ان سقوط العرش البريطاني من الامبراطورية كان بداية لنوع جديد من الامبراطوريات, امبراطوريات قامت تحت رداء جديد ليس بينه الوجود العسكري المباشر, والغاء حكومة الدولة المحتلة واستبدالها بــ (مندوب سام) بل قامت امبراطوريات متخفية تحت ستار الكلام المعسول عن (الديمقراطية) و(الحرية) و(حقوق الانسان) وما يؤكد ذلك ان دولا تقول انها ديمقراطية تنزع في ممارسة سياستها الخارجية الى الخضوع الى القوى الكبرى, او بمعنى اصح (القوة الكبرى الوحيدة) التي تحكم العالم الآن. الازمة الاخيرة بين العراق والولايات المتحدة اثبتت لتلاميذ مدارس الدول الاوروبية, ان بلادهم ليست سوى جزء من امبراطورية كبرى تسمى (الولايات المتحدة الامريكية) , ومهما قيل من مسميات, فانهم يرون ان حكومات بلادهم ليست سوى (عرائس) تلعب ادوارها على مسرح كبير تم اعداده جيدا تديره واشنطن, ورؤساء وزراء بلادهم ليسوا سوى (مندوبين ساميين) يحكمون نيابة عن البيت الابيض, وان لعبة الديمقراطية والحرية والانتخابات لعبة داخلية اتفقت عليها جميع الاحزاب السياسية الموجودة على الساحة السياسية للبلاد لتبرير وجودها. تستخدم الامبراطورية الجديدة وسائل جديدة في التخفي عن الاعين, تلك الوسائل تعتمد بشكل خاص على السينما والتلفزيون, السينما تربي اطفال العالم كله على ان (البطل السوبر) الامريكي لا مثيل له في العالم, ويجب الخضوع لارادته ومن تسول له نفسه مواجهة هذا البطل يكون مصيره من مصير الذين كانوا يواجهون رجال افلام (الويسترن) و(الكاوبوي) لأن (الشريف) الامريكي لهم بالمرصاد, والعالم منقسم الى اثنين (الكاوبوي) و(الهندي الاحمر) ونحن جميعا لسنا سوى (هنود حمر) في امبراطورية الكاوبوي المعاصرة. وحتى لا يعتقد البعض انه من حقه ان ينافس الامريكي لان لون بشرته ابيض مثل الامريكيين انفسهم, فان البطل الاسطوري (رامبو) كفيل بأن يدفعهم الى مواجهة الواقع الذي تحكمه السيطرة الامريكية بشقيها المخابراتي (سي اي ايه) والعسكري (حاملات الطائرات وطائرات الشبح وبي 52) ومن لا يؤمن بذلك يكون مصيره مثل نهايات تلك الافلام الهوليوودية اي الموت والدمار. اما وسائل الاعلام الاخرى من صحافة واذاعة وتلفزيون فهي الاخطر في هذه الامبراطورية لانها قادرة على تزييف الحقائق, واقناع الجميع بمسميات خاطئة, فالصراع (الاسرائيلي الفلسطيني) يتحول في تلك الوسائل الاعلامية نفسها الى (الصراع العربي الاسرائيلي) والازمة بين الولايات المتحدة والعراق تتحول على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف ونشرات وكالات الانباء الى (صراع بين العراق والامم المتحدة) , وكلا التسميتين تزييف للحقائق, العرب ليسوا طرفا اصيلا في الصراع مع اسرائيل, بل هم طرف باعتبار ان الفلسطينيين في حاجة الى دعم يقدمه لهم العرب في اطار (قبلي) من أجل الحصول على حقوقهم, تماما كما تحصل اسرائيل على الدعم اللا محدود من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي تدعم اسرائيل علنا أو سرا, ولكن اعلام الامبراطورية الامريكية الكبرى يحاول أن يصور الامر على انه صراع (عربي - اسرائيلي) لتصوير اسرائيل ضحية صغيرة الحجم بريئة في مواجهة عرب يفوقونها عددا, ويحيطون بها كما تحيط الامواج بالغريق. اما الصراع بين الولايات المتحدة والعراق, فان وسائل الإعلام تزيف الحقائق ايضا, وتصوره على انه صراع بين (الأمم المتحدة) والعراق, رغم أن الأمم المتحدة ليست على خلاف مع العراق, ولو امتلكت الأمم المتحدة أمر نفسها, أو طبقت المبادىء التي قامت عليها ما كانت هناك أزمة, وما كانت هناك حاجة الى كل هذه الأسلحة المدمرة التي تم وضعها في الخليج, لأنها أسلحة في النهاية لا تقل دمارا عن الأسلحة التي يقال ان صدام حسين يمتلكها. وادارة الأزمة الأخيرة تؤكد أن الأزمة كانت بين العراق والولايات المتحدة, وتؤكد ايضا ان البيت الأبيض كان يديرها من منطق وجود (امبراطورية امريكية) وان الأمم المتحدة ليست سوى جزء من أجهزتها الفاعلة في غياب وجود حقيقي لسياسات دولية اخرى يمكنها ان توقف هذا اللعب بالنار الذي يهدد العالم اجمع, العرب منذ احتلال الكويت يعيشون حاله تجعل وجودهم بلا وزن يمثل حقيقة ما يملكونه من قوة اقتصادية وسياسية تستطيع ان تلفت نظر العالم ليعاملهم باحترام كما حدث عام 1973. روسيا وأوروبا غارقتان حتى أذنيهما في مشاكل سياسية واقتصادية داخلية, وبعضها يعيش حالة من التفسخ بسبب انتشار الفساد في الادارة, وكثير من اجهزتها تقف في قفص الاتهام, أو ان بعض سياسييها ليس لهم وزن سياسي دولي حقيقي, فيحاولون ارضاء سيد البيت الأبيض من خلال السير في ركابه, كما يفعل رئيس وزراء بريطانيا (توني بلير) أو رئيس الوزراء الاسباني (خوسيه ماريا ازنار) الذي علم مواطنوه بدعمه لضرب العراق من خلال تصريحات رئيس الوزراء البريطاني لاحدى شبكات التلفزيون الامريكية (؟!). ادوات اعلام الامبراطورية الامريكية استطاعت ان تصب في عيون العالم واذنيه ان الأزمة بين العراق والأمم المتحدة, وكالعادة اعتمدت على ان الذاكرة المعاصرة تنسي بسرعة بسبب كم المعلومات اليومي الذي يتلقاه (مواطنوها) في العالم كله, وهي تقنية معروفة تعتمد على هجوم معلوماتي كمي رهيب, اضافة الى اعتمادها على ان المحللين السياسيين قليل منهم من يعتمد على (ارشيف) خاص به, يعود اليه ليصل الى نتائج صحيحة, لم نقرأ مثلاً ان الرئيس بيل كلينتون أطلق قبل عامين 44 صاروخاً على العراق لمجرد دعم حملته الانتخابية, ودون ان يقدم اسبابا مقنعة حتى للدول الغربية التي تدور في اطار الامبراطورية الامريكية. واعداده لحملته التي اطلق عليها اسم (رعد الصحراء) لم تكن هناك اسباب في المنطقة في حاجة الى كل هذا الحشد العسكري, ولكنها كانت تتعلق باسباب خاصة بسيد البيت الابيض, الذي يعيش في حالة مستمرة من الفضائح (الجنسية) التي تلاحقه من قضية الى أخرى, اضافة الى خضوعه التام لعصابة عملاء اسرائيل من الصهاينة الذين يشكلون العمود الفقري لمجلس وزرائه, الذين يرون ان حل القضية الفلسطينية لا يجب ان يتم من خلال تنازلات اسرائيلية, بل من خلال تصفية الفلسطينيين انفسهم. لوبي الصهيونية لا تعنيه قضية امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل, ولا تعنيه قضية أي تهديدات يمثلها نظام صدام حسين لجيرانه, ولكن سرعة ارسال الجنود الى الخليج, و(تكويم) هذا الكم من الأسلحة المدمرة على الحدود العربية كان يهدف الى احتلال العراق وتقسيمه, وتنفيذ مشروع توطين الفلسطينيين في شماله, في وطن يجمعهم مع الاكراد في سلة واحدة, ليدخلوا في مرحلة تدمير ذاتي, وبذلك يمكن للبيت الابيض ان يعش حالة من الهدوء من خلال تخلصه من مشاكل اسرائيل الامنية, اضافة الى تخلصه من مشاكله (الجنسية) مع اليهودية (مونيكا) التي ربما تقبل ان تعود الى السكن معه تحت سقف واحد, في الحجرة البيضاوية لتسري عن كلينتون في فترة عزلته عندما تتخلى عنه هيلاري بعد انتهاء فترة الرئاسة, لأن وجود هيلاري مرهون بوجوده في البيت الابيض, حتى لا ننسى كان الطلاق سبيلهما, ثم تراجعت هيلاري عندما علمت انها ستكون سيدة أمريكا الأولى(!). ليست هناك اجابة تقنع التلميذ الاسباني عن (انتهاء عصر الامبراطوريات في التاريخ) لأنه ليس غبيا بحيث يمكن للمعلم ان يقنعه بانتهاء عهد الامبراطوريات من خلال لجنة تصفية الاستعمار, لأنه يعتقد عن اقتناع انه يعيش في بلد يرفع الديمقراطية شعارا, لكنه محكوم بمندوب سام امريكي متطور يفي بحاجة التطور في الشكل الامبراطوري الذي يعتمد على اختيار الضحية للجزار (!). كاتب مصري مقيم في اسبانيا*

Email